الخلود الرقمي: هل يمكن أن يخلد الإنسان في ذاكرة الذكاء الاصطناعي؟ (الجزء الثاني)

الرباط في 12 يونيو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

في الجزء الأول من هذا المقال، (نشرناه يوم أمس) عرفنا بمفهوم الخلود الرقمي، حيث بدأنا رحلتنا من جذور الحلم الإنساني بالخلود، وتتبعنا كيف تطور هذا الطموح من الأسطورة إلى التقنية، وطرحنا عدة تساؤلات محورية: ما هو الخلود الرقمي؟ وكيف يعيد تشكيل معنى الموت في زمن تُختزن فيه الذكريات والوعي على خوادم إلكترونية؟

في الجزء الثاني، سنواصل هذا الغوص في أعماق الخلود الرقمي، لننتقل من الأبعاد التقنية والتجارية إلى تساؤلات أكثر عمقًا وجرأة: كيف تنظر الأديان السماوية إلى هذا الطموح الجديد؟ وهل يشكّل الخلود الرقمي تحديًا للعقيدة والإرادة الإلهية؟ سنفتح أيضًا باب النقاش حول الأبعاد الأخلاقية والوجودية لهذه الظاهرة، قبل أن نختم بتأمل في المفارقة العجيبة بين وهم البقاء وكرامة الرحيل.

الخلود الرقمي وموقف الأديان الإبراهيمية: هل نحن أمام تعدٍّ على الإرادة الإلهية؟

في جوهرها، ترى الأديان الإبراهيمية أن الموت ليس نهايةً، بل بوابة انتقال إلى عالم آخر، حيث يُحاسَب الإنسان على أفعاله، وتُفصل روحه عن جسده لتلقى جزاءها وفق مشيئة الله. فكيف إذن تتعامل هذه الأديان مع مفهوم “الخلود الرقمي”، حيث يُعاد بناء وعي الإنسان رقمياً في بيئة افتراضية، ويُمنح نوعًا من الاستمرارية بعد الوفاة، ولو بشكل غير مادي؟

1. الإسلام: الموت قدر محتوم والحياة الآخرة هي الخلود الحقيقي

في العقيدة الإسلامية، الموت ليس فقط مرحلة بيولوجية، بل هو فاصل وجودي صارم بين عالم الشهادة وعالم الغيب. يقول الله تعالى:

“كل نفس ذائقة الموت” (سورة آل عمران، آية 185).

ويُفهم من هذا أن الخلود محصور في الآخرة، حيث يُبعث الناس ويُحاسبون وفق أعمالهم.

وبناءً على ذلك، فإن محاولة تجاوز الموت عبر أدوات اصطناعية أو رقمية قد يُنظر إليها باعتبارها وهماً من صنع البشر، لا يمكن أن يرقى إلى “الخلود الحقيقي” الذي هو بيد الله وحده.

كما أن فكرة تحميل الوعي البشري على منصة رقمية تثير إشكاليات شرعية، لأنها تطمس الفارق بين الجسد والروح، في حين أن الروح عند المسلمين “أمر من أمر ربي”، ولا يمكن إخضاعها للعلم أو التقنية.

بل إن بعض العلماء قد يعتبرون الخلود الرقمي تعديًا على حدود العبودية، وتغوّلاً على مفهوم التوكل على الله والتسليم بحكمه، وكأن الإنسان يسعى ليكون إلهاً لنفسه، يقرر مصيره بعيداً عن سنن الكون التي وضعها الخالق.

2. المسيحية: القيامة ليست استنساخاً، بل خلاصاً إلهياً

في اللاهوت المسيحي، الموت ليس إلا مرحلة نحو القيامة في اليوم الأخير، حيث يُبعث المؤمنون بأجساد جديدة ممجدة. هذا البعث ليس مجرد إحياء بيولوجي، بل فعلٌ إلهي نابع من المحبة والنعمة، ويشترط الإيمان والرجاء والخلاص.

من هذا المنطلق، فإن محاولة “إعادة خلق” الإنسان رقمياً قد تُعد، في نظر لاهوتيين مسيحيين، تشويهاً لفكرة القيامة، إذ إن الخلود الرقمي لا يقوم على النعمة، بل على التقنية والتحكم البشري.

هل يمكن لآلة أن “تخلّص” إنسانًا؟ وهل يمكن أن تحل ذاكرة رقمية محل الروح التي هي سر من أسرار الله؟ الإجابة عند الكثير من المسيحيين ستكون بالنفي.

ثم إن كثيراً من الطوائف المسيحية ترى أن الهوية الإنسانية مرتبطة بجسد وروح، وليس بمجرد بيانات. فالإنسان ليس “وعياً” يُمكن نسخه، بل هو كائن مخلوق على صورة الله (Imago Dei)، ما يجعل من محاولة رقمنته نزعة شبه هرطقية.

3. اليهودية: الحياة هبة إلهية والموت جزء من النظام المقدس

في اليهودية، تُعتبر الحياة هبة ثمينة من الله، والموت جزء لا يتجزأ من “النظام المقدس” للعالم. ورغم تنوع المواقف بين التيارات الأرثوذكسية والإصلاحية، فإن الاعتقاد بالبعث موجود، خصوصًا في التيار الأرثوذكسي، حيث يُنتظر بعث الأموات في “عالم الحق”.

الخلود الرقمي هنا قد يُرى كنوع من العبث بمقام الحياة والموت. إذ إن محاولة تكرار الإنسان في صورة رقمية يُعد، من وجهة نظر دينية، تدنيسًا لمعنى القداسة التي تميز النفس البشرية.

ففي التصور اليهودي، “النَفِيش” (النفس) ليست كياناً يمكن نسخه أو تشغيله على سيرفر، بل هي رابطة خاصة تربط الإنسان بالله وبشعبه وبالعهد.

فهل نحن أمام تعدٍّ على العقيدة؟

تثير فكرة “الخلود الرقمي” سؤالاً وجوديًا خطيرًا:

هل يحاول الإنسان، مدفوعًا بالعلم والتكنولوجيا، أن يسلب الإله سلطته على الحياة والموت؟

رغم أن أغلب الأديان تُشجّع على العلم وتدعو إلى اكتشاف الكون، إلا أن هناك حدودًا روحية وأخلاقية لا يُسمح بتجاوزها.

محاولة تجاوز الموت رقميًا تضع الإنسان في موقع الرب، وتحوّل “القيامة” إلى مشروع تقني لا أخلاقي، منزوع الروح، لا صلة له بالعدل الإلهي أو الرحمة أو الحساب.

الأديان، في جوهرها، تعلّم أن الخلود لا يُشترى ولا يُخترع، بل يُمنَح من الله، حسب مشيئته. ولهذا، فإن مشاريع “الخلود الرقمي” قد تُواجَه مستقبلاً ليس فقط بالأسئلة التقنية أو القانونية، بل بمقاومة لاهوتية وفلسفية عميقة، تتعلق بماهية الإنسان وحدود العقل ومكانة الخالق.

الخلود أم التشويه؟ التساؤلات الأخلاقية والوجودية

مع كل نقلة تقنية تلامس جوهر الإنسان، تتفجر أسئلة لا تتوقف عند حدود العلم، بل تنفجر في قلب الأخلاق والفلسفة والدين. والخلود الرقمي، رغم بريقه التكنولوجي، يقف عند مفترق حرج:

هل يمنحنا هذا الخلود نوعًا من الراحة والاستمرار؟ أم يشوه فكرة الإنسان ويجرد الموت من معناه؟

1. من يملك “أناي” بعد موتي؟

أحد أبرز الإشكالات الأخلاقية يتمثل في ملكية البيانات. إذا تم تخزين شخصيتك بالكامل في قاعدة بيانات، فمن يملك حق التحكم فيها بعد رحيلك؟

  • هل ترثها عائلتك كما ترث الممتلكات؟
  • هل تؤول إلى الشركة التي بنت النموذج؟
  • وهل يجوز قانونًا تعديلها أو حذفها أو حتى “إسكاتها”؟

المسألة تمس بعمق حق الإنسان في الخصوصية حتى بعد موته، وربما تفتح الباب أمام تحريف شخصيته لأغراض تجارية أو ترويجية. هل يحق لشركة ذكاء اصطناعي مثلًا أن تُوظّف نسخة رقمية من كاتب شهير لترويج سلعة ما؟ ماذا لو تم استخدام نموذج رقمي لشخص مات في نشر خطاب كراهية لم يكن ليؤمن به أصلًا؟

2. هل هذا امتداد للحياة… أم إنكار للموت؟

في قلب التجربة الإنسانية، يقبع الموت بوصفه المعلم الأعظم، واللحظة التي تُعيد تشكيل وعينا بما هو مهم. لكن الخلود الرقمي يُعيد تعريف هذه الحدود، ويقترح صيغة “بلا نهاية”، حيث لا يغيب الشخص فعليًا، بل يستمر في الحضور من خلال شاشات وأجهزة.

هنا ينبثق سؤال فلسفي جوهري:

هل الخلود الرقمي استمرار للحياة؟ أم محاولة لإنكار الموت وطمس حدوده؟

البعض يرى فيه نوعًا من “الهروب الوجودي”، حيث يخشى الإنسان الفناء فيبحث عن بدائل تضمن له شكلًا من البقاء الرمزي. لكنها بدائل قد تكون خالية من الجوهر، مجوفة من الوعي الحقيقي، مجرد “قناع ذكي” يرتدي ملامح من رحلوا، لكنه لا يملك أرواحهم.

3. ماذا عن الحزن؟ هل سينتهي؟ أم سيتحول إلى إدمان رقمي؟

من وجهة نظر إنسانية، الحزن جزء من نضوج النفس وتقبلها لضعفها وزوالها. الموت في حد ذاته يدفعنا لمراجعة حياتنا، ولتقدير لحظاتنا. لكن في ظل الخلود الرقمي، هل سيتحول الحزن إلى علاقة افتراضية طويلة الأمد؟

قد يجد البعض عزاءً في محادثة نسخة رقمية لأم راحلة، أو ابن فقد، لكن هذا العزاء قد يتطور إلى إدمان أو “تعويض مرضي” يمنع الفرد من المضي قدمًا في الحياة. وقد يفقد الموت دوره التربوي والعاطفي، ويتحول إلى مجرد “نقل بيانات من الجسد إلى السحابة”.

4. هل سنحيا للأبد كنسخ مشوشة؟

المعضلة الوجودية لا تقف فقط عند من مات، بل تمتد إلى الأحياء أنفسهم. هل نعيش اليوم ونحن نُعد أنفسنا للخلود؟ هل تصير حياتنا اليومية مجرد محتوى نراكمه ليبني نسخة رقمية منا؟

وهل سيُصبح الموت مستقبلاً غير مكتمل، لأنه لم يُرفق بوصية رقمية أو بيانات كافية لتوليد النموذج؟ هل سنضطر إلى أن نُحدث سيرتنا الذاتية الرقمية باستمرار كما نُحدّث تطبيقًا؟ هذه الفكرة تثير قلقًا وجوديًا عميقًا: هل نحن نحيا لنُخلد، أم نُخلد لنستمر في الوهم؟

5. عندما يلتقي الذكاء الاصطناعي بالدين: هل الخلود الرقمي منافٍ للعقيدة؟

العديد من الأديان تنظر للموت كعتبة ضرورية للانتقال إلى عالم آخر — سواء كان جنة، جحيمًا، أو تناسخًا. فهل يتعارض الخلود الرقمي مع هذه الرؤى؟

قد يرى البعض فيه تحديًا لله، أو رغبة في تجاوز ما حدده الخالق.

وفي حين يعتبره آخرون امتدادًا للذكرى الطيبة، فإن الفرق بين “الذكرى” و”الاستمرار التفاعلي” شاسع، وقد يُثير اعتراضات دينية عميقة، خصوصًا إذا وُظفت النسخة الرقمية لتقديم فتاوى أو رؤى روحية كما لو كانت من صاحبها الأصلي.

6. هل نريد فعلاً أن نُبعث رقميًا؟

ربما يكون السؤال الأكثر جوهرية هو: هل نرغب فعلًا أن نُستنسخ؟

هل نريد أن يُسمع صوتنا بعد موتنا؟ أن نظل نحاور أحباءنا؟ أن نُبعث في “ذاكرة صناعية” لا تنام؟
أم أن في الموت نوعًا من الكرامة، من الغموض، ومن الرحيل الذي ينبغي احترامه؟

الخلود الرقمي، كما يبدو، ليس مشروعًا علميًا فقط، بل رهان إنساني رهيف على معنى الحياة، وحدود الهوية، وسؤال: متى يجب أن نقول وداعًا؟

خاتمة: بين وهم الخلود وكرامة الفناء

في عالم يسير بخطى متسارعة نحو الذكاء الاصطناعي، يصبح سؤال الخلود الرقمي أكثر من مجرد تمرين نظري، بل تحديًا حقيقيًا لمعاني الحياة والموت والهوية.

هل سنقبل أن نحيا إلى الأبد كبيانات على خوادم لا تنطفئ؟ وهل يكفي أن نُقلَّد حتى نظن أننا باقون؟

الخلود الرقمي، في جوهره، ليس وعدًا بالحياة بل محاكاة لها. هو انعكاس باهت لذات كانت تنبض جسدا ومشاعر، وتحيا داخل تعقيدات التجربة الإنسانية.

من جهة، يمكن لهذا الخلود أن يكون عزاءً، أداة لتوثيق الذاكرة، أو حتى وسيلة لفهم من رحلوا عنا بعمق أكبر.
لكن من جهة أخرى، قد يتحول إلى سجن رقمي نُبعث فيه رغماً عنا، أو إلى أداة تُشوه صورتنا، أو إلى مرآة نُحدق فيها بلا روح.

لقد منحتنا التكنولوجيا قدرةً لا مثيل لها على استحضار الماضي، لكنها لم تمنحنا حتى الآن قدرة على بعث الروح.

والمفارقة أن الإنسان، في سعيه المحموم للخلود، قد يفقد جوهره البشري القائم على الزوال، النسيان، والموت.

ربما علينا أن نُعيد النظر في مفهوم البقاء، لا بوصفه استمرارًا حرفيًا، بل كأثر طيب، أو فكرة تنمو، أو حب يثمر بعد غيابنا.

ربما الخلود الحقيقي ليس في نسخة رقمية تتكلم بلساننا، بل في القيم التي نتركها، وفي الذكريات التي نحيا بها في قلوب من أحبونا.

فالإنسان، في نهاية المطاف، لا يُختزل في خوارزمية. وليس كل ما يُمكن تقليده يستحق أن يُسمّى حياة.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

مغزى اختيار المغرب من طرف إيلون ماسك: استراتيجية طموحة وآفاق واعدة

الرباط في 17 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري في خطوة استراتيجية لافتة، أعلن إيلون ماسك، …

إسرائيل وإيران على حافة الهاوية: هل نحن على أعتاب حرب كونية وإعادة رسم الخرائط؟

الرباط في 16 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة تصاعدت في الأيام الأخيرة حدة المواجهة …

حزب “رمح الأمة” الجنوب‑أفريقي يدعم الحكم الذاتي للصحراء المغربية… ماذا يعني ذلك ؟

الرباط في 13 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حركة “رمح الأمة”… صدمة سياسية وتحدي …

من برلين إلى مدريد: هل بدأ الغرب يفيق على فظائع غزة؟

الرباط في 7 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مأساة مستمرة منذ السابع من أكتوبر منذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *