
الرباط في 7 يونيو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مأساة مستمرة منذ السابع من أكتوبر
منذ السابع من أكتوبر 2023، حين شنت إسرائيل حربها المفتوحة على قطاع غزة، تشهد الساحة الفلسطينية واحدة من أعنف المآسي الإنسانية في العصر الحديث.
فقد تخطى عدد القتلى الفلسطينيين عشرات الآلاف، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال والنساء. أضيف إلى ذلك عشرات الآلاف من الجرحى، والمفقودين تحت الأنقاض، وملايين ممن يعيشون في ظروف تشبه المجاعة، وسط انعدام شبه كلي للأمن والخدمات.
في ظل هذه الصورة الكارثية، ظل الموقف الغربي – أو على الأقل المعلن منه – متمترسًا خلف “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”.
لكن تطورات الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا في مواقف بعض العواصم الغربية، تشير إلى نبرة جديدة، وإن بدت حتى الآن خجولة أو مترددة، إلا أنها تُثير تساؤلات حول ما إذا كانت تمثل تحوّلًا حقيقيًا في سياسات الغرب تجاه إسرائيل، أم أنها مجرد مناورات سياسية مؤقتة، سرعان ما ستنقشع لتعود الأمور إلى سابق عهدها من الانحياز المطلق.
ألمانيا: بداية كسر الصمت؟
ما أدلى به المستشار الألماني فريدريش ميرتس في مؤتمر re:publica الرقمي ببرلين يوم 26 مايو 2025 كان بمنزلة الزلزال في السياسة الألمانية.
فبعد عقود من الدعم اللامشروط لإسرائيل، أعلن ميرتس أنه بات “غير قادر على استيعاب الهدف من العمليات العسكرية الإسرائيلية”، مؤكدًا أن “حجم معاناة المدنيين في غزة لم يعد من الممكن تسويغه بمحاربة إرهاب حماس”.
هذا التصريح العلني والمنتقد لإسرائيل من أعلى هرم السلطة الألمانية يُعد سابقة سياسية لم تحدث منذ قيام الدولة الإسرائيلية، وهو ما دفع كثيرين للتساؤل: هل تعني هذه التصريحات بداية مراجعة ألمانية فعلية لموقفها التقليدي؟ أم أنها مجرد تهدئة للرأي العام الغاضب والمتزايد من فظائع الحرب؟
الحقيقة أن ألمانيا، التي استخدمت تاريخها النازي كأداة لتبرير دعمها المطلق لإسرائيل، كانت طوال الأشهر الماضية في موقع الحليف غير المشروط. فقد واصلت تزويد إسرائيل بالسلاح، وتبنّت خطابها السياسي والدعائي، وحتى دافعت عن قصف المستشفيات والمدارس تحت ذريعة “أن حماس تستخدمها لأغراض عسكرية”.
لكن تصريحات ميرتس لم تُترجم حتى الآن إلى أي سياسات عملية. فالمجلس الاتحادي الألماني، وبعد أيام فقط من تصريحاته، جدد بالإجماع التزامه “بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، دون أي إشارة إلى الجرائم المرتكبة في غزة، مكتفيًا بدعوة شكلية لاحترام القانون الدولي من جميع الأطراف.
وبالتالي، فإن الموقف الألماني، وإن بدت عليه بعض علامات التململ، لا يزال بعيدًا عن التحول الجذري. ومن المرجّح أنه محاولة لامتصاص الغضب الشعبي الأوروبي والعالمي المتنامي تجاه الموقف الألماني، خاصة مع تصاعد الضغوط الإعلامية والقانونية، بما فيها دعاوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.
إسبانيا: الموقف الأكثر جرأة ووضوحًا
في المقابل، تبدو إسبانيا حتى الآن الدولة الأوروبية الغربية الوحيدة التي تبنت موقفًا واضحًا وصريحًا لصالح الفلسطينيين، ولم تتردد في التعبير عن ذلك في أكثر من محفل. وقد كان حضورها في القمة العربية الأخيرة رسالة سياسية قوية، لا سيما أن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أعلن صراحة أن “ما تقوم به إسرائيل في غزة غير مقبول، ويمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي”.
ولم تكتف مدريد بالتصريحات، بل دعمت موقف جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وانتقدت بشكل مباشر سياسة الاحتلال والاستيطان، وعبّرت عن قلقها من احتمال التهجير الجماعي للفلسطينيين من غزة. كما التزمت بمنع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل بشكل مؤقت، في خطوة اعتُبرت فريدة من نوعها بين دول الاتحاد الأوروبي.
إسبانيا، برغم عدم امتلاكها النفوذ الدولي الكافي للضغط الميداني، إلا أنها تمثل معسكرًا أخلاقيًا متقدمًا داخل القارة، بدأ يكسر طوق الصمت الأوروبي، ويفضح سياسة الكيل بمكيالين في ما يتعلق بحقوق الإنسان. ويبدو أن تحرّكها هذا دفع دولًا أخرى مثل أيرلندا وبلجيكا إلى التعبير عن مواقف أقل تماهيًا مع إسرائيل.
فرنسا: تحوّل جزئي أم مناورة ماكرونية؟
فرنسا، التي لطالما تبنّت خطًا شبه متوازن في النزاع، بدأت خلال الأشهر الأخيرة تُظهر مؤشرات على الابتعاد عن الدعم غير المشروط لتل أبيب. فقد صرّح الرئيس إيمانويل ماكرون مؤخرًا بأن بلاده “لا يمكن أن تدعم قتل المدنيين، وأن القصف العشوائي على غزة يجب أن يتوقف”.
كما صوّتت فرنسا لصالح قرارات الأمم المتحدة التي تطالب بوقف إطلاق النار، وانضمت إلى الدول التي لوّحت بإمكانية اتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل إذا استمرت في خرق القانون الدولي. وفي مؤتمر باريس الدولي الأخير حول غزة، أكّد وزير الخارجية الفرنسي أن “السلام في الشرق الأوسط يبدأ من الاعتراف بالحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني”.
لكن هذا الموقف الفرنسي لم يخلُ من الغموض. فباريس، رغم انتقاداتها، لا تزال تصدّر بعض المكوّنات الدفاعية لإسرائيل، ولم تقم حتى الآن بأي خطوات عملية ملموسة مثل فرض عقوبات، أو تبنّي سياسة قطع العلاقات العسكرية.
الأكثر من ذلك، أن فرنسا لا تزال تساوي بين مقاومة الاحتلال، وأفعال العنف التي ترتكبها إسرائيل، متجنبة وصف ما يحدث في غزة بأنه “جريمة إبادة”، على عكس ما جاء في تقارير العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية.
صوت المجتمع المدني العالمي: من الشوارع إلى البحر
بموازاة المواقف الحكومية المتذبذبة، يُسجَّل تحرّك متنامٍ للمجتمع المدني العالمي ضد حرب الإبادة في غزة. فقد شهدت عواصم كبرى مثل نيويورك، لندن، باريس، برلين، ومدريد وغيرها تظاهرات ضخمة شارك فيها ملايين الغاضبين، بينهم طلاب، أكاديميون، فنانون، وصحفيون، رفعوا شعارات تدين العدوان الإسرائيلي وتطالب بوقف فوري للحرب ورفع الحصار.
وفي الجامعات الغربية المرموقة، تصدّرت الحركات الطلابية المشهد التضامني، من اعتصامات حاشدة في هارفارد وكولومبيا إلى وقفات رمزية في كامبريدج والسوربون، ما أعاد فلسطين إلى قلب النقاش السياسي والأخلاقي داخل النخب الأكاديمية.
لكن التضامن لم يقتصر على التظاهرات، بل وصل إلى عرض البحر. فقد أبحرت سفينة مادلين، المحمّلة بأطنان من المساعدات الطبية والإنسانية، في محاولة شجاعة لكسر الحصار البحري المفروض على غزة، لتذكّر العالم بمبادرات مشابهة مثل “أسطول الحرية” و”مرمرة الزرقاء”. ورغم التهديدات الإسرائيلية، فإن هذه الخطوة أعادت تسليط الضوء على العمل المدني المباشر كأداة مقاومة غير عنفية، ووسيلة للضغط على الحكومات المتخاذلة.
كما أطلقت منظمات حقوقية دولية حملات قانونية لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين بتهم الإبادة، بالتوازي مع توسّع حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، التي بدأت تُحدث أثرًا ملموسًا على شركات متورطة في دعم الاحتلال.
هذا الحراك المدني واسع النطاق، والذي يمتد من الجامعات إلى الموانئ، يبعث برسالة واضحة: إذا كانت الحكومات بطيئة في التحرّك، فإن الشعوب بدأت تتقدّم الصفوف، مدفوعةً بوعي أخلاقي عالمي لم يعد يقبل التواطؤ مع الجريمة.
هل نحن أمام تحوّل حقيقي؟
الإجابة ليست سهلة. فبين ألمانيا المترددة، وفرنسا الغامضة، وإسبانيا الجريئة، يتضح أن الغرب، وإن بدأ يعيد النظر في بعض جوانب دعمه لإسرائيل، إلا أن هذا التحوّل لم يبلغ بعد درجة التغيير الجذري في المسار السياسي أو الأخلاقي.
وربما يكون هذا التردد نابعًا من عدّة اعتبارات، من بينها:
- الضغوط الداخلية المتنامية، لا سيما مع اتساع رقعة المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات الغربية الكبرى.
- التقارير الحقوقية الدولية التي باتت تضع إسرائيل في موقع الاتهام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
- التحوّلات الجيوسياسية العالمية، التي بدأت تقلل من وزن الدعم الغربي الأحادي لإسرائيل، في مقابل تزايد نفوذ دول الجنوب العالمي والصين وروسيا، التي تتبنى خطابًا مختلفًا.
- التنافس الأوروبي الداخلي، حيث تسعى بعض الدول، مثل إسبانيا وأيرلندا، إلى تصدّر المشهد كقوى أخلاقية في مواجهة المواقف “المخزية” لبعض حلفائها.
ختامًا: مناورة أم منعطف؟
قد يكون من المبكر الجزم بأن مواقف الغرب من حرب غزة بدأت تتغير فعليًا. لكن الواضح أن صورة إسرائيل لم تعد كما كانت، وأن خطاب “الدفاع عن النفس” فقد الكثير من بريقه في العواصم الغربية. ورغم محاولات بعض الحكومات الغربية التخفيف من وقع الكارثة عبر التصريحات، إلا أن العالم بدأ يرى إسرائيل كدولة احتلال تنتهك القانون الدولي، وليس فقط كضحية للإرهاب.
الأسئلة التي تظل مفتوحة هي: هل ستترجم هذه التصريحات إلى سياسات؟ وهل ستتبعها إجراءات ملموسة؟ أم أن ما نراه اليوم لا يعدو كونه فصلًا جديدًا من المناورة السياسية الغربية، ينتهي – كما في كل مرة – بإعادة إنتاج نفس المعادلة: دعم غير مشروط لإسرائيل، وتجاهل حقوق الفلسطينيين، وتهجير جديد، وخرائط جديدة للدم والدمار؟
الجواب سيتحدد في الشهور المقبلة، لكنه لن يُملى فقط من برلين أو باريس، بل من الأراضي الفلسطينية أيضًا، ومن أصوات ملايين الغاضبين في شوارع الغرب، ومن قاعات المحاكم الدولية، ومن ضمير العالم الذي بدأ يصحو ولو متأخرًا.
عذرا تحدثت عن الغرب، وحرصت على ألا تسقط النقطة من حرف الغين، اعتقادا مني أن دور العرب أقل تأثيرا في إيجاد حل للقضية الفلسطينية.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com