عقول تحت الحصار: كيف يحولنا “التشتت الرقمي إلى مستهلكين بلا وعي”؟

الرباط في 25 يونيو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

مقدمة: حين لا نملك وقتًا للفهم

في عالم يزداد تسارعًا كل يوم، يبدو أن الإنسان قد دخل مرحلة جديدة من الحضارة: حضارة السرعة والتشتت.

لا نكاد نبدأ في قراءة مقال حتى ننتقل إلى فيديو قصير، ولا نكاد نستوعب فكرة حتى تجذبنا إشعارات هاتفنا إلى فكرة مضادة.

لقد أصبحت التنبيهات والإعلانات القصيرة سلعةً تُشترى وتُباع، وأصبح التفكير العميق ترفًا لا يجده كثيرون.

فهل نحن اليوم أمام مرحلة جديدة من التطور الإنساني؟ أم أننا نعيش انحدارًا هادئًا نحو التفاهة؟

هذا المقال يحاول سبر أغوار هذا التحول، انطلاقًا من أسئلة جوهرية تتعلق بالزمن والمعرفة والسلوك البشري في عصر “التشتت العظيم”.

التشتت كمعضلة حضارية

انفجار المحتوى… وانكماش الفهم

ما يُنشر اليوم في ساعة واحدة على الإنترنت يفوق ما كان يُنشر في سنة كاملة قبل قرن واحد. لكن المفارقة المحزنة أن الكمّ الهائل من المعلومات لا يقابله ارتفاع في منسوب الفهم أو الوعي، بل غالبًا العكس.

ففي مقابل كل فيديو تعليمي، هناك مئات المقاطع القصيرة التي لا تهدف إلا لجذب الانتباه والتسلية العابرة.

خوارزميات لا ترحم

الخوارزميات المسيطرة على شبكات التواصل الاجتماعي لا تهدف إلى تثقيف المستخدم أو توسيع أفقه، بل إلى إبقائه لأطول مدة ممكنة داخل التطبيق.

ولفعل ذلك، فإنها تغذّيه بمحتويات تثير انفعالاته السريعة: الضحك، الغضب، الانبهار، الرغبة… أما التأمل والنقد والربط بين الأفكار، فقلّما تُكافأ عليه.

الأثر النفسي: العقل في زمن الانتباه المجزأ

انقراض “التركيز العميق”

أصبح من النادر أن يجلس شخص لقراءة كتاب كامل من الغلاف إلى الغلاف دون أن ينقطع عنه بسبب إشعار أو رسالةنصية قصيرة أو تغريدة. التركيز العميق، الذي كان يُعتبر مهارة أساسية للعلماء والمفكرين، بات اليوم يعاني خطر الانقراض.

ذاكرة مملوءة… ولكنها فارغة

إن عقولنا اليوم ممتلئة بآلاف الصور والمقاطع والمعلومات السطحية، لكنها تعاني من نقص حاد في “المعرفة المرتبة”. نعرف القشور، ونجهل الأعماق. نحفظ العناوين، وننسى المضامين. وهذا النوع من المعرفة الفوضوية لا يتيح لنا بناء رؤى أو اتخاذ قرارات حكيمة.

من العقلية التحليلية إلى ردود الفعل السريعة

ثقافة “السكّر الرقمي”

يشبّه بعض الباحثين المحتوى السطحي على الإنترنت بالسكّر: يمنحك لذة سريعة لكنه مضرّ على المدى البعيد. وكلما أفرطت في استهلاكه، قلّت قدرتك على تحمّل “الأطعمة الفكرية الثقيلة” كالمقالات الطويلة أو الوثائقيات العميقة أو كتب الفلسفة والتاريخ.

الإدمان الجديد: محتوى لا يُشبع

كلما استهلكتَ المزيد من المحتوى القصير، زادت حاجتك إلى المزيد. وهذا النوع من الإدمان لا ينتج عن حاجة معرفية، بل عن تعطّش نفسي للشعور بالانشغال أو التسلية. إنه إدمان يغذي التشتت، ويخدّر العقل.

المدارس والجامعات في مواجهة التشتت

نظام تعليمي كلاسيكي لعصر رقمي متسارع

في قلب هذا العصر الرقمي، يبدو أن الفجوة بين “طريقة التعليم” و”طريقة التلقي” قد اتسعت بشكل خطير. الطالب اليوم لا يأتي إلى الصف فقط بجسده، بل بعقله الموزّع على عشرات النوافذ الرقمية المفتوحة في ذهنه.

ومع ذلك، لا تزال طرق التعليم الجامدة كما هي: تلقين مباشر، نصوص مطوّلة، امتحانات تقيس الحفظ لا الفهم.

هذه الأساليب، التي صُممت لعصر الكتاب، أصبحت عاجزة عن التفاعل مع طالب تربّى على الفيديوهات السريعة والإجابات الفورية. والنتيجة؟ شعور بالملل، وفقدان الدافعية، وانفصال عميق بين “ما يُدرَّس” و”ما يُفهم”.

الحل في “العمق البطيء”؟

في مواجهة هذا الانفصال، برزت أصوات تدعو إلى ما يُعرف بـ”التعلّم العميق البطيء” — وهو ليس بطئًا بمعناه السلبي، بل هو تعبير عن التمهّل في الاستيعاب والتدرّج في الفهم.

هذا النموذج يشجّع على العودة للأسئلة المفتوحة، والنقاشات الطويلة، والمشاريع التراكمية التي تتطلب بحثًا وربطًا وتحليلًا. لكنه أيضًا يتطلب من المعلم أن يتحوّل من “مُلقّن” إلى “مُيسر”، ومن الطالب أن يتحول من “متلقٍ سلبي” إلى “مشارك نشط”.

التحدي الحقيقي أن هذا النمط يواجه مقاومة من نظام يقدّس النتائج السريعة والمؤشرات الرقمية، لا عمليات التعلم الفعلية.

هل نحن أمام تحوّل في طبيعة الإنسان نفسه؟

تَغيُّر في أنماط التفكير

لقد اعتاد العقل البشري، لقرون، أن يعالج المعلومات على شكل تسلسل منطقي: فكرة تؤدي إلى أخرى، ونتيجة تُبنى على مقدمات. غير أن الحياة الرقمية، خصوصًا عبر وسائل التواصل، أعادت تشكيل هذا النمط جذريًا.

اليوم، نحن نقفز بين مواضيع متعددة في وقت واحد: من فيديو مضحك، إلى خبر سياسي، إلى إعلان، إلى صورة شخصية. التفكير لم يعد متسلسلًا، بل صار شبكيًا وعشوائيًا أحيانًا.

البعض يرى في ذلك “مرونة ذهنية” أو “قدرة على التكيف”، لكن الواقع يُظهر أن هذا النوع من التفكير قد يضعف قدرتنا على التحليل العميق واتخاذ قرارات مدروسة.

هل نتحول إلى “كائنات سطحية”؟

يصف نيكولاس كار في كتابه الشهير “السطحيون” كيف أن الإنترنت لا يغيّر فقط ما نعرف، بل كيف نفكر أيضًا. فالعقل الذي يتغذى يوميًا على محتوى سريع، غير مترابط، وسهل الاستهلاك، يفقد ببطء قدرته على التعمق والصبر والتأمل.

نحن لا نُخلق سطحيين، لكن البيئة الرقمية — إذا لم ننتبه — تصنع منا كائنات سطحية، تتفاعل سريعًا لكنها لا تستوعب بعمق.

هذا التغير في طبيعة التفكير قد لا يكون مجرّد عرض جانبي، بل تحوّل جذري في طبيعة الإنسان الحديث، خاصة الأجيال الجديدة التي لم تعرف زمنًا خاليًا من الشاشات.

الإعلام في زمن العناوين الصادمة

كل شيء يجب أن يُصدمك

في سباق محموم لجذب الانتباه، تحوّلت أغلب وسائل الإعلام إلى ما يشبه مصانع للدهشة المصطنعة.

العنوان لم يعد مجرد مدخل للخبر، بل أصبح “المنتج” ذاته. والمحتوى غالبًا ما يأتي ضعيفًا أو مضخمًا أو مضللًا.

هذا الانزلاق نحو “الصدمة” جعل من الإعلام أداة للترفيه السطحي، بدلًا من أن يكون وسيلة للفهم والتحليل والتفسير.

وبفعل الخوارزميات، صار النجاح يقاس بعدد النقرات والتفاعلات، لا بمدى دقة المعلومة أو تأثيرها الإيجابي.

ماذا نخسر حين نتخلى عن العمق؟

عندما يُستبدل التحليل بالتجزيء، والبحث بالإيجاز، يُصبح الرأي العام هشًا وسهل التلاعب. لا يمكن أن نبني فهمًا حقيقيًا لقضايا مثل العدالة الاجتماعية، أو تغيّر المناخ، أو صراعات العالم، من خلال مقاطع قصيرة وعناوين مثيرة.

نحن لا نخسر فقط الدقة، بل نخسر القدرة على التفكير النقدي واتخاذ المواقف الواعية.

الرأي الذي يُبنى على تغريدة أو مقطع 10 ثوانٍ، هو انفعال لا يستند إلى معرفة. وفي النهاية، يتحوّل الإعلام من سلطة رقابية تنويرية إلى مسرح ترفيهي، يستهلك الحقيقة بدلاً من أن يكشفها.

هل يمكن إنقاذ المعنى؟ دعوة للبطء الواعي

خطوة إلى الوراء… لا إلى الخلف

لا يعني نقد التشتت أننا ضد التكنولوجيا أو التقدم. بالعكس، المطلوب هو إدماج هذه الأدوات ضمن نمط حياة يوازن بين السرعة والعمق، بين الاستهلاك والإنتاج، بين المعرفة السطحية والفهم العميق.

البطء خيار حضاري

أن تقرأ كتابًا في أسبوع أفضل من قراءة 100 تغريدة في ساعة. أن تتأمل فكرة واحدة بعمق، خير من معرفة آلاف الأفكار دون أن تلمس جوهرها.

البطء لم يعد ضعفًا، بل قد يكون السبيل الوحيد لحماية عقلنا في زمن التشتت العظيم.

خاتمة: هل لا زال هناك أمل؟

نعم، لا يزال هناك أمل — لكنه ليس أملًا ساذجًا، بل مشروطًا بالوعي، وبالاختيار الصعب في زمن السهولة الساحقة.

لقد أصبح من الضروري أن نُعيد النظر في علاقتنا بالتكنولوجيا لا من باب الرفض أو الانبهار، بل من باب التحكّم الواعي.

السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس: “ماذا يمكن أن تقدّمه لنا التقنية؟”، بل “ما الذي نريد أن نبقى عليه كبشر؟”.

إذا كان العالم قد فرض علينا السرعة، فإن البطء أصبح خيارًا ثوريًا. وإذا كانت الخوارزميات تسعى لتشكيل وعينا، فعلينا أن نستعيد زمام المبادرة: نقرأ ببطء، نفكّر بعمق، نناقش بهدوء، ونعيد الاعتبار لكل ما يحتاج إلى وقت: المعرفة، الفهم، الحكمة.

إن الدعوة إلى “الفكر البطيء” ليست عودة إلى الوراء، بل مقاومة للتفتّت الداخلي الذي نعيشه. أن نبطئ لا يعني أن ننعزل، بل أن نختار ما يستحق وقتنا. ففي النهاية، ما نمنحه وقتنا هو ما يُشكّل وعينا، وحياتنا.

ولعل أعظم ما نحتاج إليه اليوم ليس فقط أدوات جديدة، بل عادات جديدة في التفكير. لأننا إن لم نُدرك قيمة العمق، ونتعلّم أن نقول “لا” للتشتت، فقد نجد أنفسنا نعيش في عالم نعرف فيه كل شيء… دون أن نفهم شيئًا.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

من سيدفع فاتورة الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل وأمريكا على إيران؟

الرباط في 24 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حرب بلا جيوش… ولكن بآثار مدمّرة …

الشرق الأوسط الجديد: هل تغيّر التدخلات الأمريكية–الإسرائيلية خرائط النفوذ بالمنطقة؟

الرباط في 23 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: نهاية حقبة شرق أوسطية دامت لسنين؟ …

مغزى اختيار المغرب من طرف إيلون ماسك: استراتيجية طموحة وآفاق واعدة

الرباط في 17 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري في خطوة استراتيجية لافتة، أعلن إيلون ماسك، …

إسرائيل وإيران على حافة الهاوية: هل نحن على أعتاب حرب كونية وإعادة رسم الخرائط؟

الرباط في 16 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة تصاعدت في الأيام الأخيرة حدة المواجهة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *