التأثير الإيجابي للقراءة على الصحة العقلية والنفسية: كيف تصبح الكتب دواءً للعقل والروح؟

الرباط في 2 يونيو 2025

بقلم بسيم المجاري

المقدمة

في عالم يتسم بالتسارع والتشابك، حيث أصبحت الضغوط اليومية والتكنولوجيا الحديثة تُحاصر الإنسان من كل جانب، أصبحت الحاجة إلى وسائل صحية وفعالة للاسترخاء النفسي والعقلي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وبينما يسعى الكثيرون وراء العلاجات الكيميائية أو الترفيه السطحي للهروب من التوتر، تبرز القراءة كملاذ هادئ عميق، يقدم دعماً نفسياً وعقلياً متيناً، بعيداً عن ضجيج العالم الرقمي.

تشير العديد من الدراسات إلى أن القراءة ليست مجرد وسيلة لتمضية الوقت أو اكتساب المعرفة، بل لها تأثيرات إيجابية عميقة على الصحة النفسية، تتراوح بين تقليل مستويات التوتر وتحسين المزاج، إلى الوقاية من الأمراض العصبية مثل الخرف والزهايمر. فكيف تعمل القراءة على تحسين الصحة العقلية؟ وما هي الآليات النفسية والعصبية التي تجعل من الكتاب علاجاً فعالاً وآمناً؟

في هذا المقال، نستعرض العلاقة الوثيقة بين القراءة والصحة النفسية، ونسلط الضوء على فوائدها المتعددة من خلال منظور علمي مدعوم بالأبحاث، ونقدم نصائح عملية لتحويل القراءة إلى عادة يومية تعزز صفاء العقل وسلام الروح.

 1. القراءة وتخفيف التوتر: لماذا تعتبر أفضل من وسائل الترفيه الأخرى؟

أ. القراءة كبديل طبيعي للأدوية المهدئة

أظهرت دراسة أجرتها جامعة “ساسكس” البريطانية أن القراءة لمدة ست دقائق فقط يمكن أن تقلل مستويات التوتر بنسبة 68%، وهي نسبة تتفوق على أنشطة مثل الاستماع إلى الموسيقى أو احتساء الشاي أو المشي. ويرجع ذلك إلى:

قدرة الكتب على الانفصال الذهني عن الواقع:

عند قراءة رواية أو كتاب شيق، ينسحب العقل مؤقتاً من المشكلات اليومية ويدخل في عالم آخر، مما يخفف من الضغط النفسي.

الانخراط الكامل في حالة “التدفق ” (Flow) :

هي حالة عقلية تتميز بالتركيز العالي والانغماس الكامل في النشاط، وتشبه في آثارها الجسدية والنفسية تمارين التأمل واليقظة الذهنية.

ب. مقارنة بين القراءة والأنشطة الرقمية

في زمن الهواتف الذكية، يعتمد كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي أو الألعاب الإلكترونية للهروب من الواقع، لكنها غالباً ما تأتي بنتائج عكسية:

  • التحفيز الزائد: تَعَرُضُنا المستمر للتنبيهات والمحتوى السريع يؤدي إلى إنهاك الجهاز العصبي.
  • المقارنة الاجتماعية: تصفح حياة الآخرين على الإنترنت يعزز مشاعر النقص والتوتر، ويزيد من اضطرابات مثل الاكتئاب.

في المقابل، تقدم القراءة بيئة هادئة ومنظمة فكرياً، تتيح للقارئ التحكم في وتيرة المحتوى، وتعزز من صفاء الذهن واستقراره.

2. القراءة وصحة الدماغ: كيف تحمي الكتب من الأمراض العقلية؟

أ. الوقاية من الخرف والزهايمر

في دراسة نشرتها مجلة “Neurology”، وُجد أن الأشخاص الذين يمارسون أنشطة عقلية كالمطالعة بانتظام، يقل لديهم خطر الإصابة بأمراض الذاكرة بنسبة 32%. ويعود هذا إلى:

  • تحفيز مستمر للدماغ: القراءة تُنشّط مناطق متعددة في الدماغ، ما يعزز اللياقة العصبية ويؤخر ضمور الخلايا.
  • بناء “الاحتياطي المعرفي”: وهو قدرة الدماغ على تطوير روابط جديدة تعويضية في حال تلف بعض الخلايا، وهي خاصية يقويها التعلم المستمر والقراءة.

ب. تحسين الذاكرة والتركيز

القراءة، خاصة قراءة الكتب الطويلة أو المعقدة، تتطلب:

  • استدعاء دائم للمعلومات، مثل أسماء الشخصيات وتسلسل الأحداث، ما يحسن الذاكرة القصيرة والطويلة الأمد.
  • تدريب مستمر على التركيز: إذ تجبر القارئ على مقاومة التشتت والانخراط في محتوى واحد، مما يطور الانتباه الذهني في عالم مشتت.

3. القراءة والذكاء العاطفي: كيف تجعلك الكتب أكثر تعاطفاً؟

أ. تطوير الفهم العاطفي

القراءة، خصوصاً للأدب والروايات النفسية، توسع المدارك الشعورية، إذ:

  • تعرض القارئ لتجارب حياتية متنوعة من خلال الشخصيات والأحداث.
  • تحفز “المرآة العصبية” في الدماغ، وهي المسؤولة عن التعاطف وتقمص المشاعر، مما يعزز الفهم العميق للآخرين.

أوضحت دراسة نُشرت في مجلة ” Science” عام 2013 أن قراءة الأدب الخيالي تحسن بشكل ملحوظ قدرة الفرد على قراءة مشاعر الآخرين بدقة، وهي مهارة أساسية في الذكاء العاطفي.

ب. توسيع الأفق وتقليل الأحكام المسبقة

من خلال قراءة قصص من ثقافات وتجارب مختلفة، يتعلم القارئ:

  • احترام الاختلافات وتقبل الآخر.
  • التشكيك في الصور النمطية والابتعاد عن التعميمات، مما يخلق بيئة نفسية أكثر تسامحاً وانفتاحاً.

4. القراءة والنوم: لماذا يجب أن تحل الكتب محل الهاتف قبل النوم؟

أ. الأثر السلبي للشاشات قبل النوم

التعرض للضوء الأزرق الصادر من الشاشات الإلكترونية قبل النوم يؤدي إلى:

  • تثبيط إفراز هرمون الميلاتونين، المسؤول عن تنظيم النوم.
  • تشويش الإيقاع البيولوجي، مما يسبب الأرق واضطرابات النوم المزمنة.

ب. الكتب الورقية كَرُوتين ليلي مريح

قراءة كتاب ورقي قبل النوم تساعد على:

  • تهدئة العقل من الضجيج الرقمي.
  • دخول حالة ذهنية مهيأة للنوم، حيث يتباطأ التنفس وتنخفض وتيرة التفكير السريع.
  • تحسين جودة النوم على المدى الطويل، وهو ما أكده باحثو جامعة هارفارد في تجاربهم على النوم السلوكي.

5. كيف تجعل القراءة عادة يومية؟ نصائح عملية لتحويل الكتب إلى أسلوب حياة

أ. ابدأ بـ”قاعدة الدقائق الخمس”

خصص يوميا بعض الوقت للقراءة. وإذا كنت تجد صعوبة في الالتزام بالقراءة، ابدأ بخمس دقائق يومياً، ثم زد المدة تدريجياً. مع مرور الوقت ستتكون لديك عادة ذهنية جديدة.

ب. اختر الكتب التي تلهمك

اقرأ ما يثير اهتمامك ويعبر عن شغفك. لا تفرض على نفسك كتباً معقدة من البداية، بل ابدأ بالروايات الخفيفة أو كتب التنمية الذاتية، أو حتى السير الذاتية الملهمة.

ج. استثمر في القراءة الرقمية والكتب الصوتية

إذا كنت مشغولاً أو كثير التنقل:

  • استخدم تطبيقات مثل “أودبل” أو “كيندل”.
  • استمع إلى الكتب الصوتية أثناء القيادة أو المشي.

د. أنشئ ركن قراءة خاص بك

خصص مكاناً مريحاً، بعيداً عن كل ما يمكن أن يشتت انتباهك، فيه إضاءة مناسبة، ومقاعد مريحة، واحتفظ فيه بكتبك المفضلة.

ه. شارك الآخرين

انضم إلى نادٍ للقراءة لتبادل الآراء والالتزام بالقراءة المنتظمة.

ناقش ما تقرأه مع الأصدقاء، مما يعزز الفهم العميق ويزيد من ارتباطك بالكتاب.

الخاتمة

القراءة ليست مجرد وسيلة للهروب من الواقع، بل هي وسيلة فعالة لمواجهته بصحة نفسية وعقلية أقوى. إنها تدريب ذهني يومي، ومصدر راحة، وأداة للشفاء والتغيير. في عالم تسوده السرعة والتوتر، نجد في الصفحات ملاذاً، وفي الكلمات عزاءً، وفي القصص دروساً نعيشها وننمو بها.

قد لا يكون الكتاب دواءً تقليدياً يوصف من قبل طبيب، لكنه بلا شك علاج وقائي فعال، يرفع من مناعة العقل ويقوّي مناعة الروح.

وكما قال الكاتب “جورج آر. آر. مارتن”: “القارئ يعيش ألف حياة قبل أن يموت، أما الذي لا يقرأ، فلا يعيش إلا حياة واحدة.” فلنمنح أنفسنا فرصة عيش حياة غنية بالمعرفة، متجددة بالمشاعر، ومليئة بالحكمة من خلال القراءة.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

لا تُفوّت أعظم يوم في حياتك: كيف تغتنم كنوز يوم عرفة لحياة أبدية؟

الرباط في 4 يونيو 2025 كل عام يأتي يوم عرفة حاملاً بين ساعاته مفاتيح النجاة، …

يوم عرفة: يوم وقوف المسلمين الوافدين من كل أقطار العالم طلبا للرحمة والمغفرة

الرباط في 3 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة يُعد يوم عرفة من أعظم الأيام …

الأطفال والذكاء الاصطناعي: تحولات صامتة وتحديات خطيرة في مستقبل التربية والهوية

الرباط في فاتح يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حين يسبق الذكاء الاصطناعي أعمارنا في …

لماذا يخاف الناس من التغيير؟ أسرار المقاومة النفسية والمعوقات المجتمعية

الرباط في 30 مايو 2025 بقلم بسيم الأمجاري الخوف من المجهول: العدو الأول لأي تغيير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *