
الرباط في فاتح يونيو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة: حين يسبق الذكاء الاصطناعي أعمارنا
في زمن تتسارع فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم يعد الطفل يعيش في عالم “طبيعي” منفصل عن الآلات. حيث أصبحت هذه الأخيرة جزءًا من بيئته اليومية. الألعاب تتحدث، المنصات التعليمية تُشخّص مستواه، والمساعدات الصوتية ترد على أسئلته بدقة مدهشة. هذا التطور الملحوظ يحمل في طياته تساؤلات خطيرة، فهل يخدم الذكاء الاصطناعي تنمية الطفل فعلًا؟ أم أنه يسلبه براءته واستقلاله في هدوء؟
فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة للبالغين في ميادين العمل والابتكار، بل تسلّل بهدوء إلى غرف الأطفال وألعابهم وبيئات تعليمهم، وأصبح يُشكّل طرفًا ثالثًا مهيمنا في عملية التربية. من الألعاب الناطقة إلى الروبوتات التي تروي القصص، ومن المساعدات الافتراضية إلى تطبيقات التعلم الذكي، أصبح الطفل محاطًا بأنظمة “تفهمه”، وتُقيّمه، وتستجيب لانفعالاته. لكن هل هذا التغيير الجذري إيجابي أم سلبي؟ وهل يُشكّل الذكاء الاصطناعي فرصة ذهبية لتنمية قدرات الأطفال، أم تهديدًا غير مرئي لهويتهم، خصوصيتهم، واستقلالهم النفسي؟
الذكاء الاصطناعي يدخل عالم الطفولة: مشهد أكثر من بريء
1. ألعاب للمراقبة وليست للترفيه
دخل الذكاء الاصطناعي إلى عالم الطفولة من بوابة الترفيه أولًا، ألعاب ذكية تتفاعل مع الطفل بالصوت والحركة، وتجمع بيانات عن أسلوب لعبه، وسرعة استجابته، وتفضيلاته. ما يبدو مرحًا بريئًا يخفي تحت غطائه خوارزميات تعلم آلي ترسم خريطة دقيقة لسلوك الطفل واهتماماته.
2. التعليم الذكي: طفرة في الشكل، تساؤل في الجوهر
في الفصول الدراسية، وُظِّف الذكاء الاصطناعي في تطبيقات تشخيص الفجوات التعليمية، وتقديم محتوى مخصص حسب قدرات الطفل، طفرة نوعية بلا شك. لكن إذا كان “المُعلّم الرقمي” يجمع معلومات كثيرة عن الطفل، فمتى يتعلم هذا الطفل التحدي، الخطأ، والاستكشاف؟ وهل سيستبدل المعلم الإنساني فعلًا؟
التحديات الكبرى: حين يكون الطفل هو المُنتج والضحية في آن واحد
1. الخصوصية في مهب الخوارزميات
الذكاء الاصطناعي لا يعمل دون بيانات. والطفل، في هذا السياق، ليس فقط مستهلكًا بل مُنتِجًا ضخمًا للبيانات. من نبرة صوته، إلى حركاته، إلى سلوكه داخل التطبيقات. هل يدرك الآباء أن هذه المعلومات تُخزّن وتُحلل، وربما تُباع لاحقًا؟ وهل تكفي القوانين الحالية لحمايتهم؟
“الطفل في العصر الرقمي لا يورث فقط اسمه وذاكرته، بل يورث أيضًا بصمته الرقمية”.
2. تشكيل الهوية النفسية عبر ذكاء غير بشري
ينمو الطفل في تفاعل مستمر مع محيطه. فإذا أصبح هذا المحيط مكوّنًا من آلات تُحاكي البشر، وتستجيب لمزاجه، وتُكافئه على كل نقرة، فكيف يتطور وعيه بالذات والآخر؟ الطفل الذي يتلقى دائمًا الاستجابة “المثالية” من مساعد صوتي، قد يُصاب بالإحباط لاحقًا من العلاقات الإنسانية الطبيعية المليئة بالاختلاف وسوء الفهم.
3. الاعتماد المعرفي على الآلة وإضعاف التفكير النقدي
عندما يعتاد الطفل أن يسأل “تشات جي بي تي” بدل أن يبحث أو يُجرّب، فهل نخسر بذلك فضيلة “السعي”؟ هل يُنمي الذكاء الاصطناعي ملكة التساؤل أم يطمسها خلف إجابات سريعة مريحة لا تُكلّف مجهودًا؟
الجواب يبدو بديهيا، ما دام الذكاء الاصطناعي يُقدّم إجابات جاهزة. فلم يعد الطفل في حاجة للبحث، أو طرح الأسئلة العميقة. وهذا يُضعف التفكير النقدي، ويُقلل من القدرة على التحليل.
الرهانات: هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي حليفًا للطفولة؟
1. التعليم التكيفي: تقدير وتفهم حاجيات الطفولة
لو استُخدم الذكاء الاصطناعي بذكاء بشري، فإنه قادر على جعل التعليم أكثر عدلًا وشمولًا. تخيّل طفلًا يعاني من عسر القراءة، تُقدم له الخوارزمية محتوى بصريًا وصوتيًا يناسب إيقاعه الخاص. هنا يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تحرير لا قيدًا. ومقابل ذلك، إذا كان طفل آخر متفوق؟ يُعطى محتوى متقدمًا. الأمر هنا سيشكل طفرة تربوية إن استُخدمت بشكل عادل.
2. مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة
بعض الأطفال لا يُتقنون التواصل اللفظي. الذكاء الاصطناعي يُساعدهم عبر تطبيقات تترجم الإشارات أو الحركات إلى كلمات. هذه التكنولوجيا تعني “صوتًا” لمن لا صوت له.
3. اكتشاف مبكر للمشاكل النفسية أو الاجتماعية
تشير بعض التجارب إلى قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ملاحظة مؤشرات التوتر أو العزلة أو التنمر من خلال تحليل لغة الجسد أو أنماط التواصل، ما يتيح تدخلًا مبكرًا لحماية الطفل.
4. أطفال مبرمِجون لا مُبرمَج لهم فقط
إذا تعلم الأطفال برمجة الذكاء الاصطناعي بأنفسهم، فستتحول علاقتهم به من تبعية إلى قيادة. وهنا نُكسِر حلقة الخضوع ونَدخل في عصر جديد من التفكير النقدي والإبداع الرقمي.
وتبعا لذلك،إذا تعلّم الأطفال كيفية “برمجة” الذكاء الاصطناعي، لا مجرد استهلاكه، سيتحولون من مُستخدمين إلى مبدعين. وهو ما قد يشكل نقلة نوعية في علاقة الطفل مع التكنولوجيا.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي للأطفال: غياب إطار تشريعي منظم
1. التشريع متأخر عن التقنية
لا توجد إلى اليوم قوانين موحدة عالمية تحكم العلاقة بين الأطفال وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويظل المبدأ السائد هو “الموافقة الأبوية”، لكنها غالبًا شكلية، أو يُمنح فيها الوالدان خيارًا “مفخخًا” بين الموافقة أو حرمان الطفل من الوصول إلى الموارد.
2. من يحاسب الروبوت إن أخطأ؟
إذا قدّم المساعد الذكي للطفل معلومة مضللة أو رسخ فكرة غير مناسبة لعمره، فمن يتحمل المسؤولية؟ المبرمج؟ الشركة؟ الآباء؟ هذا السؤال الأخلاقي لا يزال مطروحًا بشدة دون إجابة حاسمة.
نماذج من الواقع: أين نجح الذكاء الاصطناعي وأين فشل؟
1. روبوت “موناش” الأسترالي: تجربة محفزة
في أستراليا، طوّرت جامعة موناش روبوتًا يساعد الأطفال المصابين بطيف التوحد على التواصل. وقد أظهرت النتائج الأولية تحسنًا في التفاعل الاجتماعي. الذكاء الاصطناعي لم يكن بديلًا، بل “جسرًا” نحو العلاقات الإنسانية.
2. تجربة الصين: الرقابة باسم التقدم
بعض المدارس الصينية زوّدت الصفوف بكاميرات تراقب وجوه التلاميذ. الهدف: قياس مدى التركيز. التلميذ المُشتت يتلقى تنبيهًا فوريًا. هذه التجربة أثارت جدلًا واسعًا حول الخصوصية والضغط النفسي على الأطفال، حيث اعتبرها البعض أداة قمعية تسلب الطفل حقه في التفكير الحر والمشاعر العفوية.
هل التشريعات قادرة على حماية الطفل؟
1. قصور القوانين الحالية
معظم الدول لا تملك قوانين محددة لحماية الأطفال في عالم الذكاء الاصطناعي. القوانين القديمة لا تكفي، والرقابة الذاتية من الشركات لا تُعوّل عليها كثيرًا.
2. الحاجة إلى “أخلاقيات ذكاء اصطناعي خاص بالأطفال”
نحتاج إلى اتفاق دولي يُحدد حدود استخدام الذكاء الاصطناعي مع الأطفال. ما يمكن فعله، وما يجب منعه. الأمر لا يتعلق فقط بالتقنية، بل بالقيم والهوية.
الأطفال في عالم يُعلِمهم الذكاء الاصطناعي: هل سلّمنا أبناءنا للآلة دون أن ندري؟
1. هل نعيش مع “جيل مُدمج”؟
من المحتمل أن يكون الجيل القادم من الأطفال هو الأول الذي لا يرى فاصلًا واضحًا بين الإنسان والآلة. هذا الإدماج قد يفتح آفاقًا غير مسبوقة من التعلّم، لكنه قد يُربك أيضًا منظومات القيم التقليدية: ما معنى الخصوصية؟ ما مفهوم الخطأ؟ ما هو الحد الفاصل بين الطبيعي والاصطناعي؟
2. هل نحتاج إلى “ذكاء عاطفي اصطناعي”؟
لكي يكون الذكاء الاصطناعي مناسبًا للأطفال، لا بد أن يُطوَّر ليحترم مشاعرهم، لا أن يُستغَل لمراقبتها فقط. ولعل الاستثمار المستقبلي ليس في تحسين دقة الخوارزميات فحسب، بل في تطوير أخلاق هذه الأنظمة.
ماذا يجب أن نفعل الآن؟
1. تثقيف الأهل
الأهل هم خط الدفاع الأول. يجب أن يعرفوا ما الذي يفعله أطفالهم بالتطبيقات. يجب أن يسألوا: ما نوع البيانات التي تُجمَع؟ ما الذي يتعلمه الطفل من هذه الأداة؟
2. دور المدرسة لا يزال أساسيًا
لا يمكن أن تحل الخوارزميات مكان المعلم. الطفل يحتاج إلى قدوة بشرية، إلى من يصحح له، ويُعلّمه الصبر والخطأ. الذكاء الاصطناعي أداة، وليس بديلاً.
3. تشجيع التفكير النقدي
يجب أن نُدرّب الأطفال على السؤال، لا فقط الجواب. نسألهم: لماذا تعتقد أن هذه المعلومة صحيحة؟ ما مصدرها؟ كيف نتحقق منها؟ هذه المهارات أهم من أي تطبيق ذكي.
خاتمة: هل نُربّي أطفالنا أم نُبرمجهم؟
الذكاء الاصطناعي ليس شرًا ولا خيرًا. هو مجرد أداة. لكن طريقة استخدامنا له هي ما يُحدد النتيجة. الطفل يحتاج إلى وقت للعب الحقيقي، للحوار، للفشل والتعلم. لا يجب أن نختصر طفولته في تفاعل مع شاشة، أو مساعد صوتي يبتسم دائمًا.
التربية هي فعل إنساني عميق، لا يمكن استبداله بخوارزمية. الذكاء الاصطناعي يجب أن يخدم الطفولة، لا أن يُعيد تشكيلها وفق منطق السوق أو الكفاءة الباردة.
في النهاية، يجب أن نستوعب أن التاريخ لن يُحاسبنا على ما قدّمه الذكاء الاصطناعي لأطفالنا، بل على ما سمحنا له أن يسلبه منهم. كما يجب ألا ننسى أن التربية ليست سباقًا في الذكاء، بل تمرين طويل على الإنسانية.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com