
الرباط في 19 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
المملكة التي تصنع الاستثناء في زمن الاستقطاب
في عالم تزداد فيه الاستقطابات الدولية حدةً وتقل فيه المساحات الرمادية، يواصل المغرب ترسيخ حضوره كدولة ذات سياسة خارجية فريدة. دولة لا تصطف بالكامل، ولا تساير الجميع، لكنها أيضًا لا تعادي أحدًا. هي دولة التوازن الذكي، والثبات في المواقف، والاحترام المتبادل، وهي السياسة التي باتت تحظى باعتراف شرقي وغربي، شمالي وجنوبي، باعتبارها نموذجًا نادرًا في عالم تهيمن عليه الفوضى الاستراتيجية.
رؤية ترتكز على المبادئ دون الوقوع في المثالية
السياسة الخارجية المغربية ليست ارتجالية، ولا هي رد فعل عاطفي على الأزمات الدولية. هي وليدة رؤية استراتيجية طويلة المدى، تنبني على ركيزتين أساسيتين: الدفاع الصلب عن القضايا الوطنية، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية، والانفتاح على جميع القوى دون الوقوع في فخ التبعية أو الاصطفاف.
هذه الرؤية تجعل المغرب دولة تحترم وعودها، لا تنكث عهدًا، ولا تدخل في مغامرات أيديولوجية أو تحالفات ظرفية. لذلك، لا يُنظر إلى الرباط كـ”دولة صغيرة تبحث عن حماية الكبار”، بل كدولة مستقلة الإرادة، واضحة الأهداف.
بين الشرق والغرب… المغرب لا يلعب على الحبلين، بل يرسم طريقه
في علاقاته مع القوى العظمى، نجح المغرب في تحقيق توازن قلّ نظيره. فهو حليف قديم للولايات المتحدة، يربطه بها اتفاق للتبادل الحر، وشراكة أمنية متقدمة. لكنه في الآن ذاته يحتفظ بعلاقات متزنة مع روسيا والصين، لا تقوم على التبعية بل على المصالح المتبادلة.
واشنطن ترى في المغرب حليفًا موثوقًا في شمال إفريقيا، وهي مواقف أكّدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من أوباما إلى بايدن، مرورًا بترامب. في المقابل، تنظر موسكو اليوم بإعجاب إلى ثبات المغرب الاستراتيجي، خاصة في ظل الأزمة الأوكرانية، حيث لم يُساير الغرب بشكل مطلق، ولم ينخرط في عقوبات ولا في عداء، بل حافظ على حياده دون أن يخسر أحد الطرفين.
الصين من جهتها تعتبر المغرب مدخلًا موثوقًا لمبادرة “الحزام والطريق” في غرب إفريقيا، وتشيد بحياديته الإيجابية واستقراره السياسي.
في إفريقيا… المغرب ليس دولة تطمح للقيادة بل لتقاسم التنمية
تُجمع دول إفريقية عديدة على احترام النموذج المغربي في الشراكة والتعاون. فالمغرب لا يُمارس الهيمنة الناعمة، ولا يفرض شروطًا سياسية على الدول الإفريقية، بل يقدم نفسه كشريك تنموي ملتزم.
وقد عمل على تعزيز حضوره الاقتصادي والدبلوماسي في عمق القارة، عبر استثمارات ضخمة في قطاعات الفلاحة، والبنوك، والتأمين، والبنيات التحتية، إلى جانب المبادرات الملكية مثل مشروع أنبوب الغاز مع نيجيريا، والتحول إلى مركز لتكوين الأئمة في دول الساحل والصحراء.
وبدل أن يُقدّم نفسه كبديل للقوى الغربية أو الآسيوية، يطرح المغرب نموذجًا تعاونيًا قائمًا على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما يزيد من جاذبيته السياسية.
أوروبا… المغرب يفاوض من موقع الندية
العلاقات مع أوروبا كانت دائمًا معقدة، لكنها لم تكن يومًا غير متوازنة. فالمغرب يعرف حجمه جيدًا، لكنه يرفض أن يُعامل كدولة تابعة.
في السنوات الأخيرة، تحوّل المغرب من موقع المتلقي للقرارات الأوروبية إلى شريك يُفرض الاستماع له. ومع أن علاقاته عرفت توترًا مع بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، إلا أنه نجح في استعادة التوازن من خلال أدواته الناعمة، وكفاءته التفاوضية، وتمسكه بمبادئ الاحترام المتبادل.
ويعترف كثير من المحللين الأوروبيين اليوم بأن المغرب هو الفاعل المغاربي الوحيد القادر على صياغة سياسة خارجية مستقلة لا تُملى عليه، ولا تخضع لضغوط ظرفية.
دول الخليج… ثقة تاريخية وشراكة استراتيجية
المغرب ظل وفيًا لعلاقاته مع دول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، رغم بعض التقلبات العابرة. هذه العلاقات مبنية على الثقة التاريخية، والتعاون الأمني، والدعم المتبادل في القضايا الاستراتيجية.
وما يميز المغرب في هذا السياق هو أنه لم يحوّل علاقاته بالخليج إلى علاقة تبعية مالية أو سياسية، بل حافظ على توازن واضح، حتى في الملفات الشائكة مثل اليمن، أو الأزمة الخليجية السابقة، حيث سعى للوساطة لا للتموقع.
الجزائر… عقدة السياسة الخارجية المغاربية
وسط هذا المشهد المتوازن، تبقى الجزائر هي الاستثناء الوحيد الذي يُعكّر صفو سياسة المغرب الخارجية. فبينما تسعى الرباط لمدّ جسور التعاون المغاربي، تختار الجزائر طريق القطيعة والتصعيد. المغرب لم يغلق أبوابه، لكن الجزائر أغلقت أجواءها وحدودها، وشنّت حملات سياسية وإعلامية بلا توقف.
والغريب أن الخصومة الجزائرية مع المغرب أضرّت بصورة الجزائر أكثر من الرباط، في إفريقيا وفي أغلب دول المعمور، حيث يُنظر للمغرب اليوم كقوة موثوقة، بينما يُنظر للجزائر كمصدر اضطراب بسبب ارتباطها بجبهة البوليساريو المتهمة بالضلوع في أنشطة غير قانونية.
منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية… المغرب حاضر بقوة
حضور المغرب في المحافل الدولية لم يعد مجرد حضور رمزي، بل صار حضورًا فاعلًا ومؤثرًا. انتخابه في 2024 ضمن اللجنة التنفيذية للإنتربول يعكس الثقة في أجهزته الأمنية، وقدرته على الإسهام في مكافحة الجريمة الدولية والمشاركة منذ عقود خلت في قوات حفظ السلام الدولية في مختلف بؤر التوتر في العالم.
لكن هذا الحضور يتجاوز الجانب الأمني إلى مستويات أكثر شمولًا، إذ يشغل المغرب مواقع مؤثرة في عدد من المنظمات الدولية. فقد انتُخب سنة 2023 رئيسًا لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو منصب لم يكن ليُمنح له لولا انخراطه الجاد، منذ أكثر من عقدين، في الدينامية الدولية لحماية حقوق الإنسان والنهوض بها. وقد قدّم المغرب خلال سنوات عضويته نموذجًا متوازنًا يجمع بين الخصوصية الوطنية واحترام المبادئ الكونية.
كما يشغل المغرب أدوارًا فاعلة في منظمات مثل منظمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الإفريقي، حركة عدم الانحياز، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من المنظمات الدولية الأخرى، مشاركًا بفعالية في صياغة القرارات الكبرى المتعلقة بالتنمية، والأمن الغذائي، والمناخ، ومكافحة الإرهاب، وحقوق الإنسان.
هذا التعدد في الحضور يعكس طبيعة السياسة المغربية القائمة على الانفتاح والتعددية، ويؤكد أن المملكة أصبحت صوتًا مسموعًا في قضايا تهم العالم أجمع.
المغرب… صانع سلام لا يكتفي بالدعوة إليه، بل يبني الجسور
من بين أبرز سمات السياسة الخارجية المغربية أنها سياسة محبة للسلام، لا تؤمن بالتدخل في شؤون الغير، ولا تسعى إلى تأجيج النزاعات، بل تعمل بهدوء على تسويتها. المغرب لا يكتفي بإعلان مواقفه الداعية إلى السلام، بل يترجمها على الأرض بمبادرات عملية، كما هو الحال في الملف الليبي، حيث لعب دور الوسيط النزيه بين الفرقاء الليبيين دون أن يفرض شروطًا أو يُملي أجندات.
وقد احتضن المغرب عدة جولات من الحوار الليبي، بدءًا من اتفاق الصخيرات سنة 2015، وصولًا إلى لقاءات بوزنيقة المتكررة، مؤمنًا بأن استقرار ليبيا لا يكون إلا عبر توافق داخلي ليبي – ليبي.
كما يرفض المغرب منطق تفتيت الدول، ويُعارض الحركات الانفصالية أياً كانت، سواء في إفريقيا أو غيرها، إيمانًا منه بوحدة الشعوب داخل أوطانها، ورفضًا لأي محاولة تستغل الهويات الجهوية أو العرقية من أجل زعزعة استقرار الدول بمبرر دعم الشعوب في تقرير مصيرها. هذا الموقف المبدئي هو ما يمنحه مصداقية متزايدة في الساحة الدولية، ويجعل منه شريكًا موثوقًا في جهود صنع السلام.
المصداقية… رأس مال المغرب غير القابل للتنازل
تُجمع الدول الكبرى اليوم على أن المغرب يتميز بمصداقية عالية. هو لا يبدل مواقفه حسب المصالح الآنية، ولا يغير حلفاءه مع كل رياح تهب. يلتزم بتعهداته، يدافع عن قضاياه بهدوء لكن بحزم، ويضع لنفسه خطوطًا حمراء لا يتجاوزها أحد.
هذه المصداقية، النابعة من التاريخ والمؤسسات، هي التي تفسر لماذا تحرص الدول الكبرى، رغم اختلاف مواقفها، على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الرباط.
خاتمة: المغرب… عندما يُصبح التوازن هو القوة
في زمن يغلب عليه الانقسام، ويميل فيه الكثيرون إلى التطرف أو التبعية، اختار المغرب طريقًا ثالثًا، صعبًا لكنه مشرف: طريق الدولة المتوازنة.
هي دولة تحترم نفسها، فلا تخضع، ولا تتعالى. دولة لا تبحث عن عداء أحد، لكنها لا تقبل المساس بثوابتها. ولذلك، تحظى باحترام العالم، حتى من أولئك الذين لا يتفقون معها.
سياسة المغرب الخارجية ليست فقط “فن التوازن”، بل “فن البقاء بكرامة”، وهو الفن الذي يفتقده كثيرون في زمن الأحلاف المتقلبة.
للاطلاع على مقالات أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com