السياسة والخطاب المُهين في ظل المبادئ الإسلامية: قراءة في تصريحات زعيم حزب مغربي

بقلم بسيم الأمجاري

أثارت تصريحات مثيرة للجدل صدرت عن زعيم أحد الأحزاب السياسية المغربية موجة واسعة من الانتقادات، وذلك بعد أن وصف بعض المواطنين بأوصاف مهينة مثل “الميكروب” و”الحمير”. وقد جاءت هذه التصريحات الصادمة لتطرح العديد من الأسئلة حول واقع الخطاب السياسي في المغرب، ومدى انسجامه مع المبادئ الأخلاقية والقيم الإسلامية التي يجب أن تكون مرجعًا في الحياة العامة والسياسية.

في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المواطن المغربي، يصبح من الضروري أن يكون الخطاب السياسي مسؤولًا، قادرًا على توجيه الرأي العام بشكل إيجابي، لا أن يُستغل لإشعال فتيل التوتر أو لإثارة الجدل لأغراض دعائية أو شخصية. ولأن الخطاب هو المرآة التي تعكس نضج الفاعل السياسي، فإن أي انزلاق لغوي لا يمكن اعتباره هفوة عرضية، بل هو مؤشر على خلل أعمق في أسلوب العمل السياسي.

من هذا المنطلق، يهدف هذا المقال إلى تحليل تصريحات المسؤول السياسي المذكور من زوايا متعددة، مع الوقوف على تداعياتها، ومقارنتها بما تفرضه القيم الإسلامية من مسؤولية واحترام متبادل، إضافة إلى استكشاف الأسباب الكامنة وراء تردي مستوى الخطاب السياسي، ودور كل من الإعلام والمجتمع المدني في التصدي لهذه الظاهرة.

1. تصريحات مثيرة للجدل: تفكيك المعاني والمقاصد

حين يصف زعيم حزب سياسي مواطنين بـ”الميكروب” أو “الحمير”، فإننا لا نكون أمام مجرد زلة لسان، بل أمام خطاب فيه احتقار للكرامة الإنسانية، وتهجم على فئة من الشعب قد تختلف معه في الرأي أو التوجه السياسي. مثل هذه التصريحات لا تخرج فقط عن حدود اللباقة، بل تُسهم في تقويض أسس الحوار الديمقراطي القائم على احترام التعدد والاختلاف ومحاولة الإقناع.

وقد جاءت هذه التصريحات في سياق حساس، حيث يعيش المغرب تحديات اجتماعية واقتصادية خانقة، أبرزها موجة الغلاء المتصاعدة، وتوالي سنوات الجفاف، وتراجع القدرة الشرائية، وهي أزمات تتطلب من الطبقة السياسية خطابًا مسؤولًا يسعى إلى لمّ الشمل وتقديم البدائل، لا خطابًا يُعمّق الشرخ بين الفاعلين السياسيين والمواطنين.

الألفاظ المهينة لا تقتصر في أثرها على اللحظة الآنية، بل تترك أثرًا عميقًا في الوعي الجمعي، وتُغذّي ثقافة الإقصاء والعدوانية، وتُبعد الخطاب السياسي عن أهدافه النبيلة.

2. التداعيات السياسية والاجتماعية: بين تآكل الثقة وتفكك الحزب

من المؤكد أن مثل هذه التصريحات تؤثر سلبًا على صورة الحزب الذي ينتمي إليه الزعيم. فهي تُضعف ثقة المواطنين في قيادته، وتُثير تساؤلات حول مدى التزام الحزب بقيم الحوار واحترام الرأي الآخر. واللافت أن هذا النوع من الخطاب الصادر عن المسؤول السالف الذكر لم يكن ليستثني باقي الفاعلين السياسيين، أغلبية ومعارضة، ورؤساء بعض الدول الأجنبية، بل وحتى بعض القياديين المنتسبين إلى الحزب نفسه، الذين بادروا إلى تقديم استقالاتهم خلال الولاية السابقة بسبب ما اعتبروه إهانة شخصية ومسًا بكرامتهم، وصعوبة في العمل داخل الحزب.

لقد أصبح الخطاب السياسي أحد أبرز محددات العلاقة بين الأحزاب والناخبين، وكل انزلاق لغوي له كلفة سياسية على المدى القريب والبعيد. وعوض أن يكون الحزب فضاءً للنقاش وتبادل الأفكار، يتحوّل إلى ساحة صراعات وتوترات تُضعف تماسكه الداخلي وتُبعد عنه الطاقات الفاعلة.

إن تكرار هذه السلوكيات يُعزز مناخ التوتر في المجتمع، ويُسهم في شيوع الخطاب المتشنج، مما يُؤثر على جودة النقاش العمومي ويُفرغ السياسة من مضمونها الإصلاحي والتنموي.

3. القيم الإسلامية: مرجعية مهجورة في الخطاب السياسي

إن ما يثير القلق حقًا هو التناقض الصارخ بين الخطاب المسيء والمبادئ الإسلامية التي تزخر بها الثقافة المغربية والتي يدعي الحزب استقاء برامجه من تعاليمها. الإسلام دين يدعو إلى احترام الإنسان، بغض النظر عن اختلافاته، ويحث على الكلمة الطيبة والتعامل الراقي. قال تعالى: “وقولوا للناس حسنًا” (البقرة: 83)، وهي دعوة صريحة لنبذ الإساءة واعتماد أسلوب الحوار البنّاء.

الخطاب السياسي يجب أن يكون امتدادًا لقيم المجتمع، لا نشازًا عنها. وإذا كان حزب سياسي يدّعي المرجعية الإسلامية، فإن المسؤولية عليه تكون مضاعفة في الالتزام بالأخلاق والتواضع في القول والفعل. فالزعيم السياسي ليس فقط ممثلًا لحزبه، بل هو قدوة يُحتذى بها في السلوك والخطاب.

ولا يمكن بناء الثقة بين المواطنين والسياسيين ما لم يكن الخطاب نابعًا من احترام متبادل وتقدير للكرامة الإنسانية، وهي معاني جوهرية في الإسلام.

4. الأسباب العميقة لتدهور الخطاب السياسي

لا يمكن فصل الخطاب السياسي المتدني عن السياق العام الذي يُنتجه. وتعود أسباب هذا التدهور إلى عدة عوامل متشابكة، من أبرزها:

شخصية الفاعل السياسي: بعض الزعماء الحزبيين يتميزون في حياتهم اليومية بطبع انفعالي، لا يتقبل النقد، ويتعامل مع الاختلاف السياسي بأسلوب هجومي، ما يدفعهم إلى إطلاق تصريحات غير محسوبة قد تُكلّفهم غاليًا.

غياب آليات المحاسبة داخل الحزب: كثير من الأحزاب لا تمتلك آليات فعالة لضبط سلوك قادتها أو محاسبتهم عند الخطأ. بل إن بعض الأحزاب تحتكم للزعيم الأوحد، مما يُحول الخطاب السياسي إلى أداة للهيمنة بدل الحوار.

تشجيع الجمهور على الخطاب الشعبوي: للأسف، يلقى الخطاب الشعبوي رواجًا بين بعض فئات المجتمع، حيث يُنظر إلى المزايدات الكلامية بوصفها قوة سياسية، وهو ما يشجع السياسيين على التمادي في استعمال لغة هجومية بحثًا عن “البوز”. أو الشهرة الزائفة.

الضغط الاجتماعي والاقتصادي: في أوقات الأزمات، يعمد بعض السياسيين إلى توجيه الغضب الشعبي نحو خصومهم، بدل تقديم بدائل واقعية. وهنا تتحول السياسة إلى حلبة تصفية حسابات، وليس إلى فضاء للتخطيط وتحقيق التنمية وتقديم البدائل.

5. الإعلام والمجتمع المدني: بين الإثارة والتوجيه

لا يمكن إنكار مسؤولية بعض وسائل الإعلام في نشر هذه التصريحات وترويجها لأغراض تجارية أو سياسية. فرغبة بعض المنابر في جذب المشاهدات تدفعها إلى التركيز على الجوانب المثيرة من الخطاب السياسي، دون الالتفات إلى أبعاده السلبية.

لكن الإعلام الجاد عليه أن يضطلع بدور تنويري، يسلط الضوء على الانزلاقات اللغوية لا بغرض الإثارة، بل من أجل فتح النقاش وتوعية الرأي العام بخطورة الخطاب المسيء. فالإعلام يُمكن أن يكون أداة لبناء وعي سياسي ناضج، يُعيد الاعتبار للأخلاق في الحياة العامة.

أما المجتمع المدني، فبإمكانه أن يلعب دورًا محوريًا في الحد من هذه الظاهرة من خلال تنظيم حملات توعوية، وتقديم مقترحات لتنظيم الخطاب السياسي، بل وحتى الضغط على الأحزاب لإقرار مواثيق أخلاقية تُحدد ما يجوز وما لا يجوز في التواصل السياسي.

6. فن التعبير السياسي الراقي

في خضم التفاعل السياسي، تبقى لغة الخطاب مؤشراً على رقي الفاعل السياسي وعمق وعيه. إن التعبير عن المواقف والانتقادات لا يستدعي الإساءة أو الشتم، بل يمكن أن يُصاغ بأسلوب حضاري ينم عن احترام الذات قبل احترام الآخر. السياسي النبيل هو من يملك ناصية الكلمة، فيوصل رسالته بحكمة واتزان، بما يعكس طمأنينة نفسه وكاريزما شخصيته. بهذا الأسلوب، لا يثير السخط بل يدعو إلى التأمل، ويحفّز المتلقي على مراجعة مواقفه دون أن يشعر بالإهانة أو الاستفزاز. فالكلمة الراقية، حين تخرج من عقل هادئ، تملك وقعاً أقوى من كل أشكال التجريح.

خاتمة: نحو خطاب سياسي يليق بالمواطن والمجتمع

التصريحات الأخيرة لزعيم الحزب تضعنا أمام لحظة تأمل صريحة في واقع الخطاب السياسي المغربي. لقد آن الأوان لأن يُراجع بعض الفاعلين السياسيين أسلوبهم في التواصل، ويستحضروا أن المسؤولية لا تقتصر على انتقاد من يخالفنا الرأي أو يدبر الشأن العام، بل تشمل أيضًا الطريقة التي يتم بها مخاطبة المواطن والفاعل السياسي.

السياسة ليست فقط برامج ومشاريع، بل هي كذلك خطاب وأسلوب حياة. ولأنها كذلك، فإنها تحتاج إلى رجال ونساء يتحلون بالحكمة، ويحترمون عقول الناس، ويؤمنون بأن الرأي الآخر ليس عدوًا، بل رافعة للتطور والنقاش البناء.

من الضروري اليوم أن تبادر الأحزاب السياسية إلى تبني ميثاق شرف يُنظم الخطاب السياسي، ويُشجع على التنافس الأخلاقي، ويُبعدنا عن منطق التنابز والتجريح. فبذلك فقط يمكن أن نعيد الثقة إلى الحياة السياسية، ونُعيد الأمل إلى المواطن الذي أصبح يشعر بالنفور من السياسة وأهلها.

ولعل أعظم ما نحتاجه الآن هو خطاب سياسي يترجم القيم الإسلامية الراقية في الاحترام والتسامح، ويُعيد للممارسة السياسية بريقها ومكانتها كأداة للتغيير الحقيقي.

للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

حين تُهزم الكلمة أمام التفاهة: لماذا تراجعَت القراءة وازدهرَت فيديوهات الرداءة؟

بقلم بسيم الأمجاري في عصر يُفترض أنه عصر المعرفة والانفتاح على العالم، باتت الكلمة المكتوبة …

حين يبكي الإنسان الأبيض يُبكى له… وحين يُذبح الطفل الفلسطيني يُنسى: عن انتقائية العاطفة ومأساة المعايير المزدوجة

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: دمعة واحدة لا تكفي في عالم يفيض بالمآسي والصراعات، لا تزال …

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الثاني)

بقلم بسيم الأمجاري شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة تنامي ظاهرة الإجرام، مع اختلاف وتنوع في …

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الأول)

بقلم بسيم الأمجاري كالعديد من المجتمعات، تشهد بلادنا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *