
الرباط في 25 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة: عندما يتقاطع العلم بالإيمان
تعيش الإنسانية اليوم على وقع تساؤلات وجودية عميقة، يتصدرها سؤال مصيري: ماذا يحدث بعد الموت؟ هذا السؤال الذي حيّر الفلاسفة والعلماء والأنبياء، عاد ليتصدر واجهات النقاش العلمي والديني بعد إعلان جامعة “ستوني بروك” للطب في نيويورك عن نتائج دراسة مذهلة تكشف أن الإنسان قد يسمع ويرى بعد وفاته بوقت طويل. هذه النتائج تقاطعت بشكل مدهش مع روايات دينية قديمة من مختلف الأديان، وعلى رأسها الإسلام.
فهل يمكن أن يعيد هذا الاكتشاف تشكيل نظرتنا إلى الموت؟ وهل هناك ما يدعم هذه الفرضية علميًا؟ وماذا تقول الديانات الكبرى عن هذه الحالة الغريبة للوعي بعد الوفاة؟
أولًا: ما الذي كشفته جامعة “ستوني بروك”؟
في واحدة من أكثر الدراسات العلمية إثارة في تاريخ علم الأعصاب، أعلنت جامعة “ستوني بروك” للطب أن مراكز السمع والبصر في الدماغ تستمر في إرسال إشارات كهربائية حيوية بعد الوفاة بعدة ساعات، بينما تتوقف باقي وظائف الدماغ الحيوية بنسبة 95% خلال دقائق فقط من توقف القلب. هذا يعني أن الإنسان الميت قد يظل واعيًا، يسمع ويرى من حوله، لكنه عاجز عن الحركة أو الرد.
هذه النتائج المذهلة، التي وصفتها الأوساط الأكاديمية بأنها “قنبلة علمية”، قلبت المفاهيم السائدة عن الموت، ودفعت العلماء لإعادة التفكير في تعريف الوفاة نفسها، والتي لم تعد مجرد توقف للقلب أو انعدام لنشاط الدماغ.
تفسير علمي مبدئي
يرى فريق البحث أن هذه الإشارات الحيوية ليست ناتجة عن خلل في القياسات، بل تؤكد أن الوعي البشري لا ينطفئ فجأة. وبحسب البروفسور “سام بارنيا”، المشرف على البحث، فإن هذه الظاهرة تشير إلى أن الموت هو عملية تدريجية، وليس لحظة واحدة فاصلة كما كنا نعتقد.
ثانيًا: جامعة ميتشيغن تسجل نشاطًا بصريًا غير عادي
لم تكن جامعة “ستوني بروك” وحدها في هذا المضمار. فقد سبقتها جامعة “ميتشيغن” الأمريكية، حيث سجلت الباحثة “جيمو بورجيجين” وفريقها نشاطًا غير عادي في منطقة الإبصار بالدماغ لدى مجموعة من المرضى في لحظات الوفاة.
لحظة الاحتضار… ماذا يرى الإنسان؟
قام الفريق باستخدام تقنية “Electroencephalogram (EEG)” لمراقبة تقلّبات النشاط الكهربائي في الدماغ، ووجد أن نشاط الإبصار يرتفع بشكل مفاجئ، بل ويتجاوز النشاط الطبيعي للإنسان السليم، في لحظات الموت. وتم توثيق ذلك أيضًا باستخدام صور “الرنين المغناطيسي الوظيفي”، والتي أظهرت نشاطًا كثيفًا في الفص القذالي، وهو المسؤول عن الرؤية.
الفرضية العلمية
يُرجّح الباحثون أن الدماغ في لحظة الاحتضار يطلق موجات دماغية كثيفة من نوع “غاما”، وهي مرتبطة غالبًا بالإدراك والوعي والرؤية الداخلية. هذا قد يفسر “رؤية النور” أو “استرجاع الذكريات” التي يرويها الكثير ممن نجوا من الموت.
ثالثًا: الشواهد الدينية… هل قال الدين بذلك من قبل؟
الإسلام: الميت يسمع ويرى
من أبرز الشواهد الإسلامية التي توافقت بشكل مذهل مع هذا الاكتشاف، حديث النبي محمد ﷺ في غزوة بدر حين خاطب قتلى المشركين، وقال:
“يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا.”
فقال عمر بن الخطاب: “يا رسول الله، أتخاطبهم بعد أن جيفوا؟”
فقال النبي ﷺ: “ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون الرد”.
هذا الحديث النبوي يُعدّ دليلًا واضحًا على أن الميت يظل قادرًا على السمع، وهي حقيقة أكدها البحث العلمي بعد أكثر من 14 قرنًا.
المسيحية: الحياة بعد الموت ليست نهاية
في العقيدة المسيحية، تتكرر مشاهد مشابهة، خصوصًا في لحظات الاحتضار. العديد من القصص الموثقة تحكي عن رؤى نورانية للمسيح أو الملائكة، يسمع فيها المُحتضَر أصواتًا ويرى وجوهًا مطمئنة.
وورد في إنجيل لوقا: “وكان لعازر في حضن إبراهيم”.
ما يشير إلى وعي باقٍ بعد الموت، يُمكن الميت من “رؤية وسماع” من حوله أو من العالم الآخر.
اليهودية: الوعي مستمر بعد الوفاة
في التقاليد اليهودية، تؤمن طائفة كبيرة من الحاخامات بـ”الوعي بعد الموت”. وتذكر التوراة في سفر صموئيل الأول أن النبي صموئيل بعد موته ظهر للملك شاول وتحدث إليه.
وقد فسّر بعض الحاخامات ذلك بأن النفس لا تنقطع لحظة الوفاة، بل تظل “محيطة” بالجسد، تراقب وتسمع وتعي ما يجري حولها، قبل أن تنتقل للعالم الآخر.
البوذية: وعي ما بعد الموت جزء من دورة التجسد
البوذية تقدم تصورًا مغايرًا لكن مشتركًا في الجوهر. بحسب النصوص التبتية، فإن الإنسان عند وفاته يدخل في “حالة بينية” تُعرف باسم “باردو”، تستمر لأيام، يحتفظ فيها الميت بوعيه بشكل جزئي، ويستطيع خلالها رؤية ما حوله وربما التواصل الروحي مع أقاربه.
ويوجد طقس ديني معروف في التيبت يُسمى “قراءة كتاب الموتى التبتي” للمحتضِر، ظنًا بأن وعيه لا يزال حاضرًا ويمكنه الاستماع وفهم التعليمات.
رابعًا: تجارب الاقتراب من الموت (NDEs)… قصص توثّق ما وراء العلم
تُعرف تجارب الاقتراب من الموت بأنها تجارب حقيقية يرويها أشخاص عادوا للحياة بعد توقف القلب أو دخولهم في موت سريري. وتتشابه روايات هؤلاء في عدة نقاط:
- الشعور بالخفة والانفصال عن الجسد.
- رؤية ضوء أبيض ساطع.
- مرور شريط الحياة أمام أعينهم.
- الإحساس بالسلام.
- رؤية أقرباء متوفين أو كائنات نورانية.
تم توثيق هذه الحالات في أكثر من 30 دراسة دولية، أبرزها أبحاث الطبيب الهولندي “Pim van Lommel” الذي راقب حالات سريرية لعشرات المرضى، وخلص إلى أن الوعي قد يستمر بعد توقف القلب لعدة دقائق.
خامسًا: هل نعيد تعريف الموت؟
حدود الموت كما يراها الطب الحديث
كان تعريف الموت في الماضي هو توقف التنفس، ثم أصبح توقف النبض، ثم في العصر الحديث بات المعيار هو توقف نشاط الدماغ.
لكن نتائج الدراسات الأخيرة، مثل التي أجرتها جامعة “ستوني بروك” و”ميتشيغن”، تدعو إلى إعادة النظر في هذا التعريف.
هل الوعي مستقل عن الدماغ؟
إذا ثبت أن الميت يسمع ويرى رغم توقف 95% من نشاط الدماغ، فهذا يفتح المجال لنظرية أن الوعي ليس ناتجًا فقط عن الدماغ، بل ربما يتجاوزه، أو يتصل بعالم آخر.
سادسًا: الأثر الأخلاقي والروحي لهذه الاكتشافات
ماذا يعني أن يسمعنا الميت؟
إذا كان الميت يسمعنا فعلًا، فهذا يدعو لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع الموتى، أثناء الغسل، الدفن، وحتى العزاء.
ويؤكد ضرورة التوقف عن التلفظ بكلمات غير لائقة، أو الحديث في حضرة الميت كما لو كان جمادًا.
تعزية أرواحنا الحيّة
قد تفتح هذه الاكتشافات نافذة جديدة لفهم العلاقة بين الأحياء والموتى، وتمنح ذويهم فرصة لتوديعهم بشكل أكثر صدقًا وطمأنينة، مع إدراك أن كلماتهم قد تُسمع فعلًا.
خاتمة: حين يلتقي العلم بالإيمان
تقدم لنا هذه الاكتشافات العلمية المتقدمة فرصة نادرة للتقاطع بين العلم والدين. ما كان في الماضي يُنظر إليه كمجرد “إيمان” أصبح اليوم موضوعًا للبحث والتحقق.
الموت لم يعد مجرد توقف للحياة، بل أصبح بداية لحالة جديدة من الإدراك…ربما “وعي ما بعد الحياة.”
وفي ظل هذا، يبقى السؤال الأهم ليس “هل يسمعنا الميت؟”، بل: ماذا نقول له ونحن نعلم أنه يسمع؟
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com