من يحرق السودان؟ أسرار الحرب الأهلية وخرائط التدخل الإقليمي

الرباط في6 ماي 2025

بقلم بسيم الأمجاري

اندلعت شرارة الحرب الأهلية السودانية الحديثة في أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”. رغم أن الصراع قد يبدو محلياً في ظاهره، إلا أن جذوره تضرب عميقاً في تربة التحولات السياسية، والصراعات العرقية، والرهانات الجيوسياسية، وامتداده يكشف عن تدخلات إقليمية.

فما الذي أشعل فتيل الحرب بين شركاء الأمس؟ ومن يقف وراء استمرار نزيف الدم؟ وهل نحن أمام صراع داخلي خالص أم فصل جديد من لعبة الأمم على الأراضي السودانية؟

قبل أن يتناحر الطرفان في شوارع الخرطوم ومدن السودان، كان الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حليفين في مشهد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021. غير أن هذه الشراكة لم تكن سوى زواج مصلحة قصير الأمد، سرعان ما انقلب إلى صراع إرادات.

جذور الانفجار: من الشراكة إلى القطيعة

فقد سعت قوى الثورة السودانية إلى دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش وفق خارطة طريق انتقالية متفق عليها دولياً. إلا أن حميدتي، الذي بنى نفوذه من خلال السيطرة على مناجم الذهب وعلاقات متشعبة إقليمياً، رأى في هذا الدمج تهديداً مباشراً لسلطته ومصالحه.

البرهان، من جهته، اعتبر بقاء الدعم السريع خارج المنظومة العسكرية الرسمية خطراً على وحدة البلاد. وهكذا تحولت الخلافات المؤسسية إلى صراع مفتوح، سرعان ما تطور إلى حرب شاملة، اجتاحت العاصمة ومدناً عدة، وأدت إلى مقتل آلاف المدنيين وتشريد الملايين.

قوات الدعم السريع: جيش داخل جيش

تأسست قوات الدعم السريع في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، كذراع أمنية موالية، هدفها مواجهة التمردات في دارفور وجبال النوبة. بمرور الوقت، تحولت هذه القوات من مليشيا قبلية إلى قوة شبه نظامية مدججة بالسلاح، تتمتع باستقلال مالي وتنظيمي.

استفاد حميدتي من ثروات الذهب في دارفور وكردفان، وبنى إمبراطورية اقتصادية خاصة، تمتد إلى شركات التعدين، والتجارة، والخدمات اللوجستية. كما عزز تحالفاته مع أطراف إقليمية نافذة، من بينها الإمارات، التي اتُهمت مراراً بتوفير الدعم اللوجستي والمالي لقواته، سواء من خلال شبكات السلاح أو عبر تسهيلات نقل واستقبال الجرحى والمقاتلين.

الإمارات في مرمى الاتهام: دعم أم مصالح؟

في مايو 2025، اتخذ السودان خطوة دبلوماسية تصعيدية بسحب سفيره من الإمارات، متّهماً أبو ظبي بدعم قوات الدعم السريع، ما أعاد تسليط الضوء على الدور الغامض للإمارات في الصراع.

تشير تقارير من مصادر متعددة، منها BBC وThe Guardian وLe Monde، إلى وجود مؤشرات قوية على دعم إماراتي غير مباشر للدعم السريع. شحنات أسلحة، طائرات بدون طيار، وتسهيلات نقل لوجستي عبر ليبيا وتشاد، كلها تمثل جزءاً من المشهد المتشابك.

تحليل المصالح الإماراتية في السودان يكشف عن دوافع متعددة:

  • الذهب السوداني: حيث تُتهم الإمارات بتوفير غطاء تجاري لتصدير الذهب السوداني الخام دون رقابة حكومية، ما يمكّن بعض الشبكات المرتبطة بالدعم السريع من تمويل عملياتها.
  • النفوذ الإقليمي: الإمارات تسعى لتعزيز موطئ قدم في منطقة البحر الأحمر، وميناء بورتسودان يمثل أهمية استراتيجية بالغة.
  • التحالفات العسكرية: لطالما رأت أبو ظبي في حميدتي حليفاً “براغماتياً” يمكنه تأمين مصالحها دون تلكؤ دبلوماسي، على عكس النخب المدنية أو الجيش النظامي الذي يميل إلى التوازنات التقليدية.

الجيش السوداني: شرعية السلطة وعبء الدولة

رغم كل الانتقادات الموجهة له، لا يزال الجيش السوداني يعتبر نفسه الحارس الشرعي لوحدة السودان، ووريث الدولة المركزية منذ الاستقلال. لكن عجزه عن احتواء الدعم السريع، ووقوعه في فخ التحالفات المؤقتة، كشف عن هشاشة النظام العسكري وبطء استجابته للتحولات السياسية والمجتمعية.

الجيش تلقى بدوره دعماً إقليمياً، لا سيما من مصر، التي تنظر إلى السودان باعتباره امتداداً أمنياً وجغرافياً لأمنها القومي. إلا أن القاهرة تفضل العمل من خلف الكواليس، ووفقاً لمعادلة عدم خسارة أي طرف محتمل في المرحلة المقبلة.

الوساطات العربية: غياب الإرادة أم غلبة المصالح؟

رغم تعدد المبادرات والقمم العربية والإفريقية، لم تُحقق أي وساطة تقدماً ملموساً في وقف الحرب. جامعة الدول العربية أظهرت مرة أخرى عجزها البنيوي، فقد أخفقت في لعب دور فعال، واكتفت ببيانات عامة لا ترقى لمستوى الحدث.

أما الدول العربية المؤثرة، مثل السعودية ومصر، فتجنبت فرض حلول صارمة أو تشكيل آلية ردع حقيقية، خشية خسارة أوراقها داخل المعادلة السودانية المعقدة. وبدا أن كل طرف ينتظر تغير موازين القوى على الأرض ليحدد موقفه النهائي.

مخطط الحرب: مشروع تقسيم أم إعادة تشكيل؟

يخشى كثيرون من أن استمرار الحرب سيقود السودان نحو سيناريو كارثي يشبه ما جرى في ليبيا أو سوريا: دولة مقسمة فعلياً، بمراكز نفوذ متصارعة، وميليشيات مسلحة، وموارد منهوبة.

المراقبون يشيرون إلى أن السودان بات ضحية لخريطة مصالح إقليمية ودولية. بالرغم من اتهام دولة الإمارات العربية، إلا أن بعض التحليلات تربط الصراع بمخططات إعادة رسم حدود النفوذ في منطقة القرن الإفريقي، مع تنافس واضح بين عدة دول منها الإمارات، وتركيا، وروسيا، والصين، وحتى إسرائيل.

لا يمكن إنكار أن بعض اللاعبين الخارجيين يفضلون وجود مناطق نفوذ منفصلة يمكن السيطرة عليها بسهولة، بدلاً من دولة موحدة يصعب التحكم بها.

لماذا فشلت الحلول حتى الآن؟

أولاً، لأن طرفي الصراع يعتقدان أن بإمكانهما الحسم عسكرياً. وثانياً، لأن المجتمع الدولي لم يتخذ موقفاً موحداً. وثالثاً، لأن الأطراف الإقليمية تتعامل مع السودان باعتباره رقعة شطرنج، لا دولة ذات سيادة.

الضغوط على المدنيين، انهيار المؤسسات، وانعدام الثقة بين القوى السياسية، كلها عوامل ساهمت في إطالة أمد الحرب.

آخر التطورات: تصعيد غير مسبوق وقطع العلاقات بين السودان والإمارات

في السادس من مايو 2025، أعلن مجلس الدفاع السوداني رسميًا قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، متّهمًا إياها بدعم قوات الدعم السريع في حربها ضد الجيش السوداني. وجاء البيان الصادر عن وزارة الدفاع السودانية ليؤكد أن لدى الخرطوم “أدلة موثقة” على ما وصفته بـ”تدخل مباشر وسافر” من قبل الإمارات، يشمل إمدادات عسكرية، ودعمًا لوجستيًا، واحتضانًا سياسيًا لقادة الدعم السريع.

هذا التصعيد الدبلوماسي غير المسبوق يشير إلى تحوّل في استراتيجية الحكومة السودانية، التي كانت تتجنب في السابق الدخول في مواجهة مفتوحة مع أبو ظبي. ويُنظر إلى هذه الخطوة على أنها تمهيد لتدويل الملف، وربما دعوة ضمنية لمحاسبة أطراف إقليمية يرى السودان أنها لعبت دورًا سلبيًا في إشعال فتيل الحرب وتأجيجها.

التحرك السوداني يعكس كذلك رغبة الجيش في كسب تعاطف دولي أوسع، ووضع حدّ للتدخلات الخارجية التي تطيل أمد النزاع وتعرقل مساعي الحل.

خاتمة: إلى أين يتجه السودان؟

في ظل انسداد الأفق السياسي، واستمرار العمليات العسكرية، لا يبدو أن هناك نهاية قريبة للحرب السودانية. المأساة الإنسانية تتسع، والفجوة بين مكونات الدولة والمجتمع تزداد اتساعاً.

إن لم تُتوحد الجهود العربية والدولية للضغط الفعلي على طرفي النزاع، ومحاسبة المتدخلين الإقليميين المتورطين في تغذية العنف، فإن السودان قد يتحول إلى ساحة حرب طويلة الأمد، تقضي على ما تبقى من أمل لدى شعبه.

على العالم أن يتوقف عن إدارة ظهره لما يحدث في السودان. فكل قطرة دم تسيل هناك، ليست مجرد رقم، بل رسالة تذكير بأن إهمال العدالة والسلام يدفع ثمنه الأبرياء، في كل مكان.

للاطلاع على قضايا أخرى، المرجو النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

لا تُفوّت أعظم يوم في حياتك: كيف تغتنم كنوز يوم عرفة لحياة أبدية؟

الرباط في 4 يونيو 2025 كل عام يأتي يوم عرفة حاملاً بين ساعاته مفاتيح النجاة، …

يوم عرفة: يوم وقوف المسلمين الوافدين من كل أقطار العالم طلبا للرحمة والمغفرة

الرباط في 3 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة يُعد يوم عرفة من أعظم الأيام …

التأثير الإيجابي للقراءة على الصحة العقلية والنفسية: كيف تصبح الكتب دواءً للعقل والروح؟

الرباط في 2 يونيو 2025 بقلم بسيم المجاري المقدمة في عالم يتسم بالتسارع والتشابك، حيث …

الأطفال والذكاء الاصطناعي: تحولات صامتة وتحديات خطيرة في مستقبل التربية والهوية

الرباط في فاتح يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حين يسبق الذكاء الاصطناعي أعمارنا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *