
الرباط في 5 ماي 2025
بقلم بسيم الأمجاري
أعلن المغرب عن إطلاق مشروع صناعي ضخم لتصنيع وتجميع هياكل مقاتلات F-16 بشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يمثل خطوة تاريخية تُدخل المملكة المغربية رسمياً إلى نادي الدول المنتجة للطائرات الحربية.
سيُقام هذا المشروع في المنطقة الصناعية “ميدبارك” بالنواصر، قرب الدار البيضاء، وسيركز على تصنيع وتجميع هياكل مقاتلات F-16، إحدى أبرز الطائرات الحربية المتعددة المهام في العالم. بموجب هذه الشراكة، حصل المغرب على ترخيص لتصنيع مكونات رئيسية للطائرات القتالية على أراضيه، وهو امتياز كان محصوراً سابقاً في حلفاء مقربين من الولايات المتحدة مثل إيطاليا وكوريا الجنوبية وتركيا والإمارات.
تعزيز الشراكة المغربية الأمريكية
يعكس هذا المشروع عمق العلاقات الدفاعية بين المملكة المغربية والولايات المتحدة والتي تعززت من خلال اتفاقيات دفاعية طويلة الأمد، أبرزها خارطة الطريق للتعاون الدفاعي الموقعة في أكتوبر 2020. كما يُعد المشروع خطوة استراتيجية نحو تعزيز القدرات الصناعية الدفاعية للمغرب، مما يساهم في تطوير قطاع الصناعات العسكرية المحلي ويعزز مكانة المغرب كمركز إقليمي للصناعات الدفاعية.
للإشارة، فإن المغرب يُعدّ حليفاً رئيسياً من خارج حلف الناتو للولايات المتحدة، وقد بلغت قيمة صفقاته العسكرية مع واشنطن أكثر من 8.5 مليار دولار، تشمل طائرات F-16، مروحيات أباتشي، ونظم دفاعية متقدمة مثل HIMARS وJSOW.
المغرب كقوة صناعية عسكرية ناشئة
يُعتبر إنشاء مصنع F-16 جزءاً من استراتيجية المغرب لتعزيز قدراته الصناعية العسكرية، حيث سبق وأن أعلن عن إنشاء منطقتين صناعيتين عسكريتين لتطوير وإنتاج المعدات العسكرية.
هذا التوجه يُعزز من استقلالية المغرب في مجال التسليح ويُقلل من اعتماده على الاستيراد، مما يُمكنه من لعب دور أكثر فاعلية في تأمين حدوده ومصالحه الاستراتيجية.
ردود الفعل الإقليمية والدولية
تتباين مواقف الدول من هذا المشروع:
- بالنسبة للجزائر: تُتابع هذه التطورات بقلق، خاصة في ظل التوترات القائمة بين البلدين حول قضية الصحراء المغربية. وتعتمد الجزائر لسنوات على التسليح الروسي غير أن التحولات والتقلبات التي يعرفها العالم، جعلها تستيقظ، ولو بشكل متأخر، للبحث عن بدائل لتوريد السلاح خارج روسيا، حليفها التقليدي.
- بالنسبة لإسبانيا: كبلد مجاور للمغرب، تُراقب مدريد هذه التطورات بحذر، خصوصاً أن تعزيز القدرات العسكرية المغربية قد يُثير مخاوف تتعلق بالتوازن الأمني في غرب المتوسط.
- بالنسبة لأغلب الدول الإفريقية: تنظر العديد من الدول الإفريقية إلى المغرب كشريك محتمل في مجالات التدريب العسكري والحصول على التكنولوجيا الدفاعية، ما يُعزز مكانته كقوة إقليمية فاعلة.
التوازنات العسكرية في شمال إفريقيا
يشهد شمال إفريقيا سباق تسلح متسارع، حيث رفعت الجزائر ميزانيتها الدفاعية برسم سنة 2025 بنسبة 10% مقارنة مع سنة 2024 لتصل إلى ما يعادل 25.15 مليار دولار، بينما خصص المغرب 13.5 مليار دولار لميزانيته الدفاعية، أي بزيادة تفوق 900 مليون دولار، مقارنة بنفس الميزانية لعام 2024.
هذا التنافس يُعزز من احتمالات التصعيد، خاصة في ظل غياب آليات فعّالة لحل النزاعات الثنائية، وهو ما يجعل من الاستعداد العسكري عاملاً أساسياً في فرض التوازن.
الفرص والتحديات المستقبلية
يمثل تطوير الصناعة العسكرية في المغرب خطوة استراتيجية تحمل في طياتها العديد من الفرص، لكنها لا تخلو من تحديات مستقبلية.
- الفرص: يُمكن للمغرب أن يُصبح مركزاً إقليمياً لصناعة وتصدير المعدات العسكرية، مما يُعزز من اقتصاده ويوفر فرص عمل جديدة.
- التحديات: التصعيد المحتمل مع الجزائر، وضغوطات من دول أوروبية قد تُعارض تعزيز القدرات العسكرية المغربية، بالإضافة إلى التحديات التقنية واللوجستية المرتبطة بتشغيل المصنع الجديد.
هل يمكن اعتبار المشروع مبادرة أمريكية لقطع الطريق أمام الصين والهند في إفريقيا؟
تُطرح تساؤلات جوهرية حول التوقيت والدوافع الكامنة وراء قرار الولايات المتحدة إنشاء مصنع F-16 في المغرب. فهل يتعلق الأمر فقط بتعزيز الشراكة المغربية الأمريكية، أم أن واشنطن تسعى أيضاً إلى تحجيم نفوذ قوى آسيوية صاعدة مثل الصين والهند في إفريقيا؟
الواقع أن القارة الإفريقية أصبحت في السنوات الأخيرة ساحة تنافس استراتيجي بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الصين، التي أطلقت منذ 2013 مشروع “الحزام والطريق”، ووسّعت استثماراتها في البنى التحتية والاتصالات وحتى الصناعات الدفاعية. كما بدأت الهند هي الأخرى تُظهر اهتماماً متزايداً بالسوق الإفريقية، من خلال اتفاقيات تعاون عسكري وتجاري مع دول مثل كينيا وموزمبيق وغانا.
من هذا المنظور، يُمكن فهم إنشاء مصنع F-16 في المغرب كمبادرة استباقية أمريكية تهدف إلى ترسيخ حضورها في إفريقيا، من خلال شراكة مع دولة ذات موقع جيوسياسي متميز واستقرار سياسي نسبي. فالمغرب يتموقع كبوابة نحو إفريقيا جنوب الصحراء، مما يجعله قاعدة استراتيجية مثالية لمنع تمدد النفوذ الآسيوي في مجال الصناعات الدفاعية بالقارة.
ولعل ما يُزكي هذا التحليل هو الوتيرة المتسارعة لتوسيع التعاون الأمريكي المغربي في المجال الأمني، وهو ما يراه البعض بمثابة “رد غير مباشر” على مبادرات الصين في الجزائر، وجيبوتي، وزيمبابوي، حيث تسعى بكين لتوطيد علاقاتها الدفاعية هناك.
المغرب كمرشح استراتيجي لتحالفات أعمق مع واشنطن
إن تدشين مصنع F-16 ليس مجرد محطة تعاون صناعي، بل قد يكون مؤشراً على دخول العلاقات المغربية الأمريكية في طور جديد من التكامل الاستراتيجي. فالولايات المتحدة تبحث في محيطها عن حلفاء موثوقين يمكن الاعتماد عليهم في تحقيق توازنات إقليمية دون الانخراط العسكري المباشر في كل صراع.
في هذا السياق، يُمكن اعتبار المغرب أحد أبرز المرشحين للعب هذا الدور، لعدة اعتبارات:
- الاستقرار السياسي النسبي مقارنة بجيرانه.
- الموقع الجغرافي الاستراتيجي بين أوروبا وإفريقيا.
- البنية التحتية المتقدمة في مجالات النقل، الطيران، والصناعات.
- الانفتاح على الشراكات الدولية دون تبعية لأي محور أحادي.
كل هذه العوامل تجعل من المغرب شريكاً مثالياً للولايات المتحدة، ليس فقط في المجال العسكري، بل أيضاً في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والاستخباراتية. ولعل ما يعزز هذا التوجه هو إدراج المغرب بشكل منتظم في مناورات “الأسد الإفريقي” التي تُعدّ من أكبر المناورات العسكرية التي تنظمها أمريكا خارج أراضيها.
كما أن المغرب يُظهر رغبة واضحة في التحول إلى “قوة إقليمية ناعمة”، تعتمد على مزيج من القوة العسكرية، والدبلوماسية، والنفوذ الثقافي، وهي رؤية تتقاطع مع الأجندة الأمريكية لخلق “مراكز استقرار” في مناطق التوتر العالمي.
لذا، فإن مشروع مصنع F-16 قد لا يكون سوى البداية لسلسلة من المشاريع المشتركة التي قد تشمل مستقبلاً قواعد تدريب، أو مراكز تطوير تكنولوجي عسكري، أو حتى تعاونا استخباراتيا لمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية.
التحليل الشامل للمشروع
يمكن تحليل مشروع تصنيع وتجميع طائرات F-16 في المغرب، من زاويتين اثنتين: اقتصادية واستراتيجية:
أولا: التحليل الاقتصادي للمشروع
يمثل هذا المشروع نقلة نوعية في الاقتصاد المغربي، إذ يحمل وعودًا كبيرة بتحفيز الصناعة، خلق فرص شغل، وجذب استثمارات استراتيجية في قطاع الطيران.
1. تحفيز الصناعة الوطنية وتحويل المغرب إلى قطب صناعي للطيران
يشكل المشروع خطوة نحو تنويع الاقتصاد المغربي، بعيدًا عن القطاعات التقليدية (كالزراعة والفوسفات والسياحة).
- سيساهم في تطوير سلسلة التوريد الوطنية وخلق منظومة صناعية متكاملة في مجال الطيران.
2. خلق فرص شغل نوعية
- المشروع سيخلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة في مجالات هندسة الطيران، التصنيع، الميكانيكا، الإلكترونيات، والتجميع.
- التركيز سيكون على الكفاءات المحلية مما يعزز نقل التكنولوجيا والخبرة إلى المهندسين والفنيين المغاربة.
3. جذب الاستثمارات الأجنبية
- تعزيز ثقة المستثمرين العالميين بقدرة المغرب على تنفيذ مشاريع عالية التقنية.
- المشروع سيُشجع شركات كبرى في الصناعات الدفاعية والطيران المدني على الاستثمار في المنطقة الصناعية “ميدبارك”.
4. تعميق التصنيع المحلي وتقليص التبعية
- سيُخفّف الاعتماد على الواردات العسكرية، خاصة في ما يخص الصيانة وقطع الغيار.
- قد يُمهد الطريق في المستقبل نحو صناعة طائرات بدون طيار أو حتى طائرات قتالية بمكونات مغربية.
ثانيا: التحليل الاستراتيجي للمشروع
يعكس المشروع بعدًا استراتيجيًا عميقًا، حيث يُعزز الشراكات العسكرية، يقوي القدرات الدفاعية، ويضع المغرب في موقع متقدم على الخارطة الإقليمية.
1. تعزيز العلاقات الدفاعية المغربية الأمريكية
- المشروع يعكس التحالف الاستراتيجي المتقدم بين الرباط وواشنطن، خصوصًا في مجال التعاون العسكري.
- يُظهر ثقة الولايات المتحدة في المغرب كـشريك موثوق ومستقر في شمال إفريقيا.
2. تعزيز القدرات العسكرية المغربية
- بامتلاك تقنيات التجميع والصيانة، تُعزز القوات المسلحة الملكية المغربية استقلاليتها اللوجستية وقدرتها على تأمين أسطولها الجوي.
- دعم هذا المشروع بصفقات عسكرية أخرى (مثل طائرات F-16 Block 70، وطائرات المسيرة MQ-9B) يعزز من التفوق الجوي المغربي في المنطقة.
3. التوازن الإقليمي وردع الخصوم
دخول المغرب إلى نادي تصنيع الطائرات الحربية يُعد رسالة ردعية استراتيجية لدول الجوار التي تنخرط في سباق تسلح متسارع.
- يعزز من مكانة المغرب كـفاعل إقليمي ذي نفوذ عسكري وصناعي في إفريقيا والمتوسط.
4. تمهيد لمشاريع دفاعية مستقبلية
- من المتوقع أن يشجع هذا المشروع على تطوير صناعات عسكرية أخرى (درونز، أنظمة رادار، صواريخ تكتيكية…).
- قد يشكل الأساس لمزيد من التعاون الثلاثي (مثلاً مع إسرائيل أو دول الخليج) في الصناعات الدفاعية.
خلاصة
يمثل مشروع تصنيع وتجميع مقاتلات F-16 بالمغرب تحولاً نوعياً في مكانة المملكة، اقتصاديًا كدولة صناعية في قطاع عالي التقنية، واستراتيجيًا كحليف موثوق وقوة إقليمية عسكرية. إنه ليس مجرد مشروع إنتاج، بل هو خطوة نحو السيادة الصناعية والدفاعية.
هذا المشروع يُمثل تحولاً في العلاقات المغربية الأمريكية، ويُعيد تشكيل التوازنات الإقليمية في شمال إفريقيا. ومع ذلك، يتطلب هذا التحول إدارة حكيمة للتحديات المحتملة، لضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمغرب.
للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com