
الرباط في 30 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
الخوف من المجهول: العدو الأول لأي تغيير
غالبا ما يتم تقييم التغيير عبر العصور كقيمة مزدوجة. أحيانًا يتم الترويج له كضرورة، وأحيانًا أخرى يتم الترهيب منه كخطر. ورُصِدت مقاومته في البيوت، في الشركات، وحتى في الدول. لكن لماذا يُقاوَم التغيير أصلًا؟ وما الذي يُزرَع في نفس الإنسان ليُعرقَل كل مسار جديد؟
أظهرت الأبحاث أن الخوف من المجهول يشكّل المحور الأساسي. فالعقل البشري بُرمِج على تفضيل الأمان، وأن المجهول لا يقدّم ضمانات. لذلك، يتم رفض التغيير قبل حتى أن يُفهَم.
التغيير كتهديد للهوية
من أنا إذا تغيّرت؟
يُربَط الإنسان بعاداته، أفكاره، ماضيه، لغته، وحتى طقوسه اليومية. ويُبنى الشعور بالذات على هذا التراكم البسيط من التفاصيل التي تتكرر. لذلك، يُفهَم التغيير، وإن بدا بسيطًا، كاهتزاز في هذا البناء. كل تحوّل يُفسَّر لا كخطوة إلى الأمام، بل كتشكيك في الذات. يُطرَح السؤال الخفي: “من أنا إذا لم أعد أفكّر أو أعمل أو أتكلم كما اعتدت؟”.
حين يُطلب من موظف قديم اعتماد نظام رقمي جديد، لا يتلقَّى الأمر كمجرد تحديث تقني. بل يحس باتهام ضمني بعدم الكفاءة وعدم جدوى العمل الذي يقدمه. ويشعر كأنه أصبح غير ضروري، أو أن خبرته تُلغى فجأة. هذا التهديد الرمزي، حتى دون قصد، يكفي لزرع الرفض، وخلق مقاومة صامتة أو علنية.
في بعض الأحيان، يُقاوَم التغيير دفاعًا عن الكرامة. لأن القبول به يُربَط داخليًا بالضعف أو الهزيمة أمام ما هو جديد. لذلك، يُفضَّل التمسّك بالمألوف، حتى لو لم يعد فعالًا. فالتغيير لا يُهدِّد فقط الأدوات، بل يطال أيضًا صورة الذات.
ذاكرة الجماعات أقوى من الرغبة في التطور
لا يُعبَّر عن الرفض دائمًا بطريقة فردية. ففي المجتمعات التقليدية، تتشكل ذاكرة جماعية تُضخِّم أهمية العادات. ويُعتبَر أي تغيير في أسلوب العيش أو في بنية المجتمع كعمل عدواني ضد التاريخ. ويُصوَّر الموروث كمقدس لا يُمس. وكل مبادرة جديدة تُواجَه بالريبة، ولو كانت نابعة من حسن نية.
تُرفض السياسات التحديثية ليس لأنها غير مفهومة، بل لأنها تُربَط بمحاولات لطمس الهوية. فحين يُقترَح تحديث المناهج التعليمية أو تغيير القوانين، يُسارَع إلى التشكيك في النوايا. ويُطرَح سؤال عاطفي: “لماذا يريدون محو ما نحن عليه؟”. هذا المنطق، وإن كان مبنيًا على الخوف، يُمثّل مقاومة حقيقية.
وقد استُخدِم هذا المنطق كثيرًا في سياقات متعددة. في بعض الدول، رُفِضت الإصلاحات القانونية لأنها وُصِفت بأنها “غريبة” أو “مستوردة”. وفي حالات أخرى، أُجهِضت محاولات تحديث الثقافة، فقط لأنها لم تنطلق من داخل المنظومة نفسها. هذه الذاكرة الجمعية تُغذّي الحذر، وتُفضِّل الركود على خطر التحوّل، حتى وإن كان نحو الأفضل.
الكسل العقلي: السبب الخفي وراء الجمود
عقل الإنسان لا يحب أن يُتعب نفسه
كُشِف في علم النفس المعرفي أن الدماغ يفضّل الحلول الأسرع. وكل عادة تُخزَّن لتُكرَّر بلا مجهود. التغيير يُربِك هذه الخطة. فهو يستدعي الانتباه، وإعادة التعلم، وإعادة التنظيم.
وقد وُصِف هذا الميل العقلي بالكسل المعرفي. ويُعَدّ أحد أقوى المعوقات أمام أي إصلاح عميق. فالناس لا ترفض التغيير دائمًا لأنه سيء، بل لأنه مرهق.
التجارب السابقة السلبية تزرع التردد
مَنْ جُرِح في الماضي يخاف المستقبل
كثير ممن يُبدون مقاومة شرسة للتغيير، لا يُعارِضون الفكرة بل يحمون أنفسهم من الإحباط. فقد جُرِّبت تغييرات كثيرة في الماضي، وفشلت. لذلك، تُرفَض المبادرات الجديدة قبل أن تُدرَس. ويُشتمّ منها رائحة الفشل حتى لو كانت مختلفة.
غياب الثقة يزيد الحذر
عندما لا يحظى صناع القرار أو القيادة بالثقة، يُرفَض كل مقترح جديد. ويُعتبَر أي تغيير محاولة للهيمنة أو التلاعب. هذه القاعدة النفسية تفسِّر لماذا تُرفَض إصلاحات جيّدة في بلدان تعاني من فساد مؤسسي.
البيئة الاجتماعية تشجع الركود
المجتمع يُراقِب ويُحاسِب من يخرج عن المألوف
تُمارَس ضغوط خفية في المجتمعات التقليدية. ويُنظر لكل محاولة تغيير كخروج عن الإجماع. من يغيّر يُوصَف بالمتمرّد أو المغرور. وتُشكَّك نواياه. لذلك، يُختار الصمت، ويُرفَض التجديد.
ثقافة “خليك في حالك” تُنتِج جمودًا عامًا
في بيئات كثيرة، يُكافَأ من لا يُزعِج المنظومة. أما من يحاول الابتكار، فيُحارَب أو يُهمَّش. هذا الواقع يُثني حتى أصحاب الأفكار النيرة. ويُفضَّل الانسحاب بدل خوض معركة طويلة مع العقل الجمعي.
وسائل الإعلام وتضخيم المخاطر
الخطر يُسوَّق أكثر من الفرص
في أزمنة الأزمات، تُكرَّس التغطيات الإعلامية للحديث عن الكوارث والانهيارات. يُقدَّم كل تغيير كاحتمال للفشل لا للنجاح. ويُختزل المستقبل في سلسلة تهديدات. هذا النمط يُعزِّز الخوف الجماعي، ويُثبِّت الذعر في اللاوعي. فالتشاؤم يُباع أكثر من الأمل.
الصور النمطية تُقيِّد الخيال
حين يُربَط التغيير دائمًا بالفوضى والاضطراب، يُزرَع في النفوس شعور بالرفض المسبق. لا يُرى إلا الجانب المؤلم منه. ويُغفَل أن التغيير قد يكون بوابة للنجاة أو للخروج من الركود. أما تجارب الشعوب التي نجحت، فتُهمَّش، أو تُقدَّم كاستثناء لا كدليل.
هل التغيير دائمًا جيد؟ سؤال مشروع
بعض التغييرات تُفرَض دون دراسة
يُفرَض التغيير أحيانًا دون حوار أو تمهيد. ويُتوقَّع من الجميع التكيّف فورًا، بلا اعتراض. وهذا يخلق شعورًا بالظلم. فمن لا يُمنَح الوقت للفهم، سيُقاوِم، لا بدافع العناد، بل لحماية توازنه. والرفض هنا ليس خيانة، بل رد فعل طبيعي.
الهوية الجماعية تُهدَّد حين يُفرَض النموذج الخارجي
عندما يُستنسَخ نموذج ثقافي لا يشبه الناس، يُرفَض التغيير تلقائيًا. ليس جهلًا، بل غيرة على الذات. فالمجتمعات لا تُقاوِم الأفكار الجيدة، بل تحمي نفسها من الانسلاخ. لهذا، يُرفَض التعليم بلغة أجنبية أو قوانين دخيلة، حتى لو بدت فعّالة في الخارج.
كيف يُدار التغيير بحكمة؟
التغيير لا يُفرَض، بل يُدرَّب عليه
التغيير الناجح لا يبدأ بقرار فوقي. بل بتحضير ذهني ونفسي. يُشرَح بلغة واضحة، لا بمصطلحات معقدة. ويُقدَّم على مراحل، لا دفعة واحدة. الهدف هو بناء قبول داخلي، لا فرض أمر واقع.
الإشراك أفضل من الإملاء
حين يشعر الناس أنهم مشاركون في صنع التغيير، يقلّ خوفهم. ويشعرون أن القرار يخصهم. أما إذا فُرِض عليهم من فوق، فسيرفضونه حتى دون تحليل. فالشعور بالإقصاء يُحوِّل أي فكرة جيدة إلى عبء ثقيل.
الشفافية تُهدِّئ القلق
عندما تُشرَح الأهداف بوضوح، وتُفسَّر الخطوات، يقلّ القلق. وتزداد الثقة. أما الغموض، فيفتح باب التأويلات. لذلك، التواصل الصريح يُعدّ مفتاحًا لكل إصلاح ناجح، خاصة في اللحظات المفصلية.
التجربة العالمية: هل يخاف الجميع من التغيير؟
اليابان وألمانيا: التغيير كفرصة للنهوض
بعد الحرب العالمية الثانية، فُرِض على اليابان وألمانيا تغيير شامل. ومع ذلك، نجحت التجربة لأن الشعب شتم إشراكه في إعادة البناء. ولم يُنظر إليه كمتلقٍ سلبي، بل كشريك كامل. فاحترام الخصوصيات أزال الحواجز.
دول فشلت بسبب الصدمة والتسرّع
دول كثيرة حاولت استنساخ نماذج غربية بسرعة، دون تمهيد. فحدث الانهيار الاقتصادي، وتفككت الروابط الاجتماعية. والناس رفضوا كل تغيير لاحق، لأنه ذَكَّرهم بمرارة التجربة الأولى. فالصدمة تقتل الثقة.
متى يصبح الخوف من التغيير ضرورة؟
عندما يُخفي التغيير أجندات خفية
التغيير ليس دائمًا بريئًا. أحيانًا يُستَغل لتمرير مصالح لا تُقال علنًا. وهنا، يصبح الخوف مشروعًا. بل واجبًا. فلا يُطلَب من الناس الثقة العمياء، بل اليقظة والتحليل والقدرة على طرح الأسئلة.
الهوية لا تُباع باسم الحداثة
حين يُهدَّد جوهر الانتماء، يصبح الخوف من التغيير دليل وعي لا علامة تخلّف. فبعض مقاومات التغيير لا تُعبِّر عن انغلاق، بل عن حرص على ما هو أصيل. والحداثة لا تعني محو الذات، بل تطويرها.
خاتمة: التغيير يحتاج إلى ذكاء لا إلى عنف
يُرفَض التغيير أحيانًا لأنه سيء، وأحيانًا لأنه أُدير بشكل سيء. لكن الخلاصة تبقى واحدة: المجتمعات تتغيّر حتمًا. إما بإرادتها أو رغما عنها. والمطلوب ليس إرغام الناس، بل تدريبهم على التغيير.
حين يُفهَم الناس، يُحتَرَم خوفهم، ويُصغَى لمخاوفهم، يُصنَع التغيير الذي يُحَبّ لا الذي يُفرَض.
فالنجاح لا يُبنى بالتجاهل، بل بالحوار. وليس بالتسرّع، بل بالحكمة.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com