
الرباط في 21 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
في كل عام، ومع اقتراب عيد الأضحى، تتكرر المعضلة ذاتها: ارتفاع صاروخي في الأسعار، واتهامات متبادلة بين البائع والمستهلك والحكومة. الجميع يتذمر، والجميع يشكو، لكنّ لا شيء يتغير. واللافت أن طرفًا مهمًا في هذه المعادلة، وهو المستهلك نفسه، كثيرًا ما يغيب عن مشهد الاتهام، رغم أن سلوكه قد يكون من بين الأسباب المباشرة لاستمرار حلقة الغلاء المتكررة وتشجيع المضاربين على الاحتكار وزيادة الأسعار.بقلم بسيم الأمجاري
خصوصية عيد الأضحى في المغرب هذه السنة
عيد الأضحى، باعتباره مناسبة دينية واجتماعية كبرى، يرتبط تقليديًا بارتفاع ملحوظ في الطلب على الأغنام. هذا الارتفاع لا يكون عشوائيًا، بل يخضع لعدة عوامل اقتصادية وسلوكية.
والمفارقة هذه السنة، أن هذا الأمر يتزامن مع قرار المغرب بعدم القيام بشعيرة أضحية العيد لحماية القطيع الوطني من الانقراض بالنظر لما يواجه بلادنا من تحديات مناخية واقتصادية منذ عدة سنوات، أدت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية. وفي هذا الصدد فقد جاء في الرسالة الملكية أنه: “مع الأخذ بعين الاعتبار أن عيد الأضحى هو سنة مؤكدة مع الاستطاعة، فإن القيام بها في هذه الظروف الصعبة سيلحق ضررا محققا بفئات كبيرة من المواطنين، لاسيما ذوي الدخل المحدود”.
وبالرغم من ذلك، يلاحظ اندفاع بعض المواطنين، ولا سيما ذوي الدخل المحدود والمتوسط، إلى شراء كيات كبيرة من اللحوم للاحتفال بيوم العيد وهو ما يعيد مسألة ارتفاع أسعار اللحوم إلى الواجهة ويخلق في السوق ارتباكا يستغله بعض المضاربين لجني أموال باهظة على حساب المستهلكين.
الغلاء الموسمي: لماذا ترتفع الأسعار مع الأعياد؟
يرتبط عيد الأضحى عموما، باعتباره مناسبة دينية واجتماعية كبرى، بارتفاع ملحوظ في الطلب على الأغنام والذبائح. بالنسبة لبلادنا هذه السنة، ورغم عدم القيام بشعيرة أضحية العيد، توجد مؤشرات على إمكانية ارتفاع الأثمان اللحوم. هذا الارتفاع لا يبدو طبيعيا، بل يخضع لعدة عوامل، منها على الخصوص:
1. سلسلة التوريد المضغوطة
مع اقتراب العيد، يتضاعف الطلب على اللحوم (بما في ذلك الكبد والشحوم وغيرها). هذا الطلب المكثف في فترة زمنية قصيرة يضغط على سلسلة التوريد، من المورد إلى التاجر بالتقسيط، ويخلق اضطرابًا في التوازن بين العرض والطلب، مما يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار.
2. استغلال المضاربين يُشعل السوق
في سياق السنة الجارية، قررت الحكومة المغربية، كما سبق الإشارة إلى ذلك، عدم ذبح الأكباش، حفاظًا على القطيع الوطني المهدد بالانقراض بسبب الجفاف. هذا القرار رغم وجاهته من الناحية البيئية، أحدث صدمة في السوق، ودفع بعض المستهلكين إلى التهافت على البدائل، مما فاقم حدة الارتفاع.
سلوك المستهلك: الحلقة المفقودة في تفسير الغلاء
1. الهلع الاستهلاكي وشراء “الآن أو لن تجد غدًا”
كثيرون يتصرفون وفق منطق “اشترِ الآن، فقد لا تجد لاحقًا”. هذه الثقافة، وإن حاولنا تفهم تخوف البعض، إلا أنها تغذي الغلاء بشكل مباشر. التاجر لا يرفع الأسعار لمجرد الجشع، بل لأنه يرى أمامه سوقًا يشتري دون تردد.
2. عندما يتحول القطيع إلى نمط استهلاك
علم النفس الاقتصادي يشير إلى ظاهرة الشراء الجماعي القائم على التقليد. فإذا رأيت جارك يشتري الكبد بثمن مضاعف، ستجد نفسك مدفوعًا لفعل الشيء نفسه، ليس لأنك بحاجة ماسة، بل حتى لا تكون “أقل جاهزية” من غيرك في يوم العيد.
الشراء بالعدوى: السلوك الخفي الذي يلهب السوق
1. لماذا نشتري ما لا نحتاجه؟
كثير من الناس لا يشترون بدافع الحاجة الفعلية، بل نتيجة ضغط اجتماعي، أو هوس بالتبضع الاحتياطي. الخوف من النقص، والرغبة في محاكاة الآخرين، يحولاننا إلى مستهلكين مندفعين.
2. كيف نكسر دائرة الشراء الجماعي؟
الحل يكمن في رفع مستوى الوعي الاستهلاكي الفردي. التريث، والشراء حسب الحاجة، والتخطيط المسبق، كلها أدوات فعالة. كما أن تأجيل بعض المشتريات إلى ما بعد العيد قد يوفر للمستهلك جودة أعلى بسعر أقل.
المقاطعة: سلاح الشعب الاقتصادي
في كثير من الأحيان، يمتلك المواطن العادي قوة تأثير أكبر مما يظن، شرط أن تُوظّف بطريقة جماعية ومدروسة.
1. درس 2018 في المغرب
في عام 2018، أطلق المغاربة حملة مقاطعة ناجحة ضد ثلاث علامات تجارية، احتجاجًا على الأسعار المبالغ فيها. رغم غياب قيادة رسمية للحملة، إلا أن تأثيرها كان لافتًا، وأُجبِرت الشركات على مراجعة سياساتها التسعيرية.
2. من الهند إلى فرنسا: شعوب تتكلم بلغة المقاطعة
في فرنسا، دفعت مقاطعة جماعية سلاسل التوزيع إلى تخفيض الأسعار. في الهند، فرضت حملات إلكترونية واقعية إعادة هيكلة الأسعار لدى شركات غذائية كبرى. وفي كوريا، ساهم المواطنون في ابتكار بدائل محلية لتقليل الاعتماد على المنتجات المستوردة مرتفعة الثمن.
من مستهلك عشوائي إلى فاعل اقتصادي واعٍ
1. الاستهلاك الذكي يبدأ من السؤال الصحيح
السؤال يجب أن يسبق كل عملية شراء هو “هل أحتاج إلى هذا؟”. عندما يدرك الفرد أن سلوكه الاستهلاكي يؤثر في السوق، يتحول من مجرد ضحية إلى فاعل اقتصادي يملك القدرة على التغيير.
2. ثقافة “التأجيل الذكي” كبديل عملي
في فترات الذروة، ترتفع الأسعار دون مبرر اقتصادي حقيقي. باعتماد التأجيل الذكي، يمكن للمستهلك أن يشتري لاحقًا بجودة أفضل وبأسعار أكثر عدالة. كما أن هذا السلوك يرسل للمحتكرين إشارة واضحة أن السوق ليس حكرا لرغباتهم وإرادتهم.
دور المجتمع المدني: من التنظير إلى التأثير
1. أدوات جديدة لقوة قديمة
يمتلك المجتمع المدني اليوم وسائل لم تكن ممكنة قبل عشرين عامًا؛ جمعيات المستهلكين، الحملات الرقمية، والمقاطعات المنظمة، كلها أدوات فعالة يمكن أن تؤثر فعليًا في السوق.
2. من التوعية إلى التعبئة
التوعية وحدها لا تكفي. المطلوب هو الانتقال إلى التعبئة الشعبية المنظمة: توعية من داخل الأحياء، مبادرات مجتمعية لتبادل السلع، خلق تطبيقات ترشد المستهلكين إلى الأسعار المعقولة، وكلها خطوات ممكنة وفعالة.
نحو وعي استهلاكي جماعي: السوق مرآة سلوكنا
1. المستهلك شريك خفي في تحديد الأسعار
عندما نلهث خلف كل منتوج أو بضاعة أو نتهافت على شراء السلع في أوقات الأزمات، فإننا — عن وعي أو عن غير وعي — نرفع الطلب، وبالتالي نمنح المضاربين والمحتكرين المبرر الكافي لرفع الأسعار. فالسوق لا يعمل في فراغ؛ إنه يستجيب لمنطق العرض والطلب، ويتشكل بناء على سلوك المستهلك الجماعي.
فكيف نلوم التاجر على التلاعب بالأسعار، ونحن أول من يتهافت إلى شراء سلعة لمجرد وجود إشاعة باختفائها؟ وكيف نحمّل الحكومة وحدها مسؤولية التضخم، بينما نساهم بأنفسنا في تغذية دوامة الجشع من خلال لهاثنا غير المدروس وراء التخزين والاستهلاك المفرط؟
2. مثال واقعي: هل فعلاً نحتاج كل ما نشتريه؟
خذ مثلاً ما يحدث قبيل شهر رمضان: يرتفع الطلب بشكل غير طبيعي على المواد الغذائية، فيقوم التجار بتخزين السلع عمدًا، ثم يطرحونها بأسعار مضاعفة وفي أوقات محددة. والمفارقة أن المستهلك ذاته هو من يلهث لشرائها، وكأنها ستُمنع من السوق إلى الأبد! إنها حلقة مغلقة لا يكسرها سوى وعي جماعي جديد.
لنكن شركاء في الحل لا في الأزمة
1. التغيير يبدأ من الوعي لا من الشكوى
لسنا بحاجة إلى عشرات القوانين والقرارات الحكومية للحد من الغلاء، بقدر ما نحتاج إلى ثقافة استهلاكية جديدة، تنظر إلى الشراء بوصفه مسؤولية، لا مجرد عادة يومية أو وسيلة لملء الفراغ العاطفي والاجتماعي. فالوعي الاستهلاكي يعني أن نعيد النظر في أسلوبنا في العيش، أن نتوقف عن الشراء العشوائي، وأن نقيّم حاجتنا الفعلية لما نستهلكه.
2. من المقاطعة الواعية إلى ثقافة الاستهلاك الذكي
ليست المقاطعة مجرد سلوك احتجاجي لحظي، بل فلسفة مستدامة لا تعني فقط الامتناع عن شراء منتوج غالٍ أو وجود جهة محتكرة، بل تعني أيضًا ترسيخ مبدأ: “أنا أقرر، أنا الرابح”. فإذا أدرك المستهلك أن كل درهم يصرفه هو بمثابة “تصويت” اقتصادي، فإنه سيعيد التفكير في كل سلعة يضعها في سلته.
لنغيّر السوق من خلال وعينا
1.المستهلك القوي هو من يتحكم في السوق
السوق، مهما بدت معادلاته معقدة، يبقى انعكاسًا دقيقًا لعاداتنا اليومية. عندما نختار بوعي، ونشتري ما نحتاج لا بما يُسوّق لنا، نعيد رسم خريطة السوق بطريقة متوازنة. لن تُحل أزمة الغلاء عبر الصراخ على مواقع التواصل، بل عبر ترشيد عاداتنا الاستهلاكية، وامتلاك شجاعة قول “لا” لثقافة التبذير والشراء لأجل الشراء.
2. من الشكوى إلى الفعل… من الاستهلاك إلى الرسالة
دعونا نتحول من موقع الضحية إلى موقع الفاعل. فالاستهلاك ليس فقط عملية مادية، بل هو أيضًا سلوك يحمل رسالة: هل سندعم الاحتكار؟ أم سنكافئ من يحترم قدرتنا الشرائية؟ هل سنكرّس منطق السوق الجشع؟ أم سنبني اقتصادًا قائمًا على التوازن والعدالة؟
خاتمة: لنجعل من الاستهلاك قوة تغيير
إن أردنا سوقًا عادلة ومستقرة، فلنبدأ بأنفسنا. لنكن مستهلكين فاعلين لا منساقين، ولنحوّل الشراء من عادة إلى موقف. فكل قرار شرائي هو لبنة في بناء اقتصاد أكثر عدالة.
فلنقلها بصوت واحد:
“قاطع الجشع… وادعم من يحترمك كمستهلك”؛
“اشترِ بعقلك… لا بعينك”؛
“أنت من يقرر اتجاه السوق… فكن واعيًا”.