
بقلم بسيم الأمجاري
نعيش في زمن تتعالى فيه الأصوات وتتشابه فيه الصور وتتسابق فيه العناوين الجذّابة على لفت الانتباه، حتى بات كل شيء يُقاس بحجمه، ضجيجه، لا بعمقه، أحيانا بفضائحه أو عدد الإعجابات التي يحصدها. في خضم هذا الزخم، تتضاءل القيم الهادئة، وتضيع المعاني الصغيرة خلف جلبة وبريق الإنجازات “الظاهرة”. لكن هل ما نعتبره “صغيراً” أو “ثانويا” هو فعلاً كذلك؟ أم أن هنالك خطأً في المعيار الذي نقيس به الأمور؟
في هذا المقال، سنحاول تفكيك بعض المفاهيم المغلوطة التي تسكن وعينا الجماعي، ونتأمل في العلاقة المعقّدة بين الحجم والقيمة، بين الفعل البسيط والتأثير العميق، بين ما يُرى سريعاً وما يُبنى في العمق ببطء وصمت، وبين الأعمال الكبيرة والأعمال الصغيرة في ميزان الحياة.
وهم العظمة في زمن المقارنات
منذ نعومة أظفارنا، نُرَبّى على الاحتفاء بكل ما هو عظيم وكبير: كبير الحجم، كبير المال، كبير المنصب، كبير الأثر. نُصفق للبطولات الكبرى، ونُبجِّل الإنجازات الخارقة، ونكتب الشعر والكلام الجميل في من أنجز “أعظم” عمل. وهذا لا خطأ فيه بالضرورة، فالعطاء العظيم يستحق الثناء، لكن الخطر يكمن حين يتحوّل هذا التقدير إلى مقياس وحيد، فنُهمل أفعال الخير اليومية التي لا تسلَّط عليها الأضواء، ونستخفّ بلحظات النبل الخفي.
منذ متى توقفنا عن تقدير الكلمة الطيبة؟ وعن الانتباه للتفاصيل الإنسانية الصغيرة؟ متى توقفنا عن تقدير من يمنح مقعده في الحافلة للكبير في السن أو المرأة الحامل، أو من يرتب على كتف شخص محبط؟ أو من يمسح دمعة يتيمة في صمت؟ أو من يزيل خطرا محذقا بالمارة في الطريق؟ أو الدفاع عن امرأة أو شخص يتعرض لاعتداء في واضحة النهار؟ أو من يُطفئ فتيل شجار بكلمة حكيمة؟ أو من يساعد شخصاً غريباً في صمت ويمضي دون انتظار شكر؟
لماذا لم نعد نرى في هذه الأفعال “الصغيرة” بطولات تستحق الذكر؟ وننتبه فقط لأعمال تافهة ورديئة تنال أكبر عدد من الإعجاب، هل لأن المقارنات سلبت منا بوصلة التقدير الداخلي، وجعلتنا نبحث عن الإثارة والعظمة فقط حين تراه أعين الآخرين وتصفق لها.
الأثر لا يُقاس بالحجم
لو تأملنا بصدق في حياتنا، لاكتشفنا أن أكثر التحوّلات تأثيراً لم تكن وليدة خطط عظيمة أو مشاريع عملاقة، بل بدأت من أشياء تبدو في ظاهرها عادية: فكرة بسيطة غيّرت مصير شخص، كلمة في وقتها أنقذت علاقة، ابتسامة صادقة خفّفت عن غريب، أو موقف عابر منح أحدهم الأمل للاستمرار.
تلك الأفعال لم تكن ضخمة، لكنها كانت صادقة، وهذا هو سرّ أثرها. إن الإنسان لا يتأثّر بالضخامة، بل بالصدق. والكلمة الصادقة، حين تأتي في لحظة ضعف، تفعل ما لا تفعله الخطب الرنانة.
فكر في لحظة ضعف مررت بها… من الذي وقف إلى جانبك؟ هل كان مشهوراً؟ أم شخصاً عادياً أنقذك بفعل بسيط، لكنه من قلبه؟
هذا هو الفارق: ليس كل ما يلمع يُحدث فرقاً، وليس كل ما هو بسيط خالٍ من الأثر.
معيار المجتمع المريض
في مجتمع يروّج للسرعة، والمظاهر، أصبحت القيم تُقاس بمدى قابليتها للعرض، لا بصدقها. من يُكرم أساتذة أو موظفين أو مواطنين شرفاء، لا يُذكر. ومن يدافع عن القيم النبيلة ويشارك ما لديه في الخفاء، لا يُشاد به.
أصبح الإنسان يُقيَّم بناء على ما يمتلك لا على ما يمنح، على شهرته لا صدقه، على شكله لا جوهره، ونسينا أن السعادة الحقيقية لا تأتي من اقتناء الكماليات أو من المظاهر، بل من الإحساس العميق بالمعنى.
في هذا العالم المقلوب، يُصبح الصدق سذاجة، والكرم تبذيراً، والتواضع ضعفاً. ويُعاد تصنيف القيم على أساس سوق السلع لا على أساس الضمير الإنساني. هذا الانحدار في المعايير جعل الكثيرين يخجلون من أفعال الخير الصغيرة، لأنها لا تُعرض على الشاشات ولا تملأ صفحات التواصل الاجتماعي.
لكن الحقيقة أن هذه التشويهات لا تصمد أمام المواقف الحقيقية، حيث ينكشف فيها معدن الإنسان، وتَبرز فيها تلك “الأفعال غير المرئية” التي لا يتداولها الناس، لكنها ترمم القلوب وتنقذ الأرواح.
عندما تُنقذ “الإنجازات الصغيرة والخفية ” ما فشلت فيه “الأعمال الكبيرة والمعلَنة “
دعونا نتأمل في مواقف حقيقية. كم من صلحٍ تمّ بين خصمين بفضل كلمة طيبة أو وساطة صادقة؟ كم من حياة تغيّرت بسبب موقف إنساني لا تلتفت إليه وسائل الإعلام؟ كم من نفسٍ كادت تزهق لولا أن صاحبها وجد من يقف إلى جانبه أو وجد من يمسك بيده دون سؤال؟ كم من جُرحٍ شُفي لأن أحدهم قال: “أنا هنا، لا تخف”؟ هذه اللحظات، وإن كانت غير ظاهرة، إلا أنها تصنع تحولات حقيقية.
الحياة ليست معادلة حسابية تُحَل بالمعطيات الكبرى فقط. في كثير من الأحيان، تُحسم معارك الإنسان الداخلية بجملة دعم، أو حتى بصمتٍ يفهمه فقط من يحتاجه. كل هذه “الأشياء الصغيرة” لا تُذكر في كتب التاريخ، لكنها تصنع تاريخنا الشخصي، تشكّل وعينا، وتعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا.
التربية على احترام ” الأفعال الجوهرية ”
لكي نُعيد التوازن إلى وعينا ونعيد الاعتبار للفعل النبيل، علينا أن نربّي أبناءنا لا فقط على الطموح الكبير، بل على الامتنان للصغير، وعلى أن القيمة لا ترتبط بما يراه الناس، بل بنية الفعل؛ أن نعلّمهم أن الحرص على نظافة الشارع عمل نبيل، وأن احترام عامل النظافة يعادل احترام الطبيب. أن نكرّس فيهم أن من يعطي خبزاً لجائع لا يقل شأناً عن من يموّل مستشفى.
التربية الواعية تعلّم الطفل أن الصدق لا يحتاج جمهوراً، وأن التواضع رفعة، وأن الاعتراف بالخطأ شجاعة.
حين نربّي أبناءنا بهذا الوعي، نُنتج جيلاً يعرف أن قيمة الإنسان لا تُقاس بحجمه الاجتماعي، بل بأثره في من حوله، جيلاً يعرف أن القيم لا تُقاس بالحجم، بل بالصدق والنقاء والأثر.
الأسماء اللامعة قد تخبو، والقلوب الصادقة تبقى
كم من “أسماء كبيرة” سقطت حين تبيّن زيفها، أو انهارت بسبب تورطها في موقف غير أخلاقي أو متابعة قضائية في عملية فساد؛ وكم من أشخاص بسطاء خُلّدوا في الذاكرة لأنهم كانوا شرفاء في الخفاء، أو بسبب موقف نبيل في لحظة شهامة. الكِبر لا يعني الثبات، والصِغر لا يعني الزوال. فالبقاء للأصدق، لا للأكبر.
ولعلنا بحاجة إلى إعادة التفكير في مفرداتنا: ليس كل من يبدو في لحظة ما “عظيما” هو فعلا ذا مصداقية وأخلاق، وليس كل يبدو في زمن الشهرة والمظاهر “صغيرا” هو فعلا هامشي. فالماء، وهو رمز الحياة، لا يملأ الكأس إلا قطرة فقطرة. والكون، في اتساعه، يتكوّن من ذرات لا تُرى.
خاتمة: حين نُغيّر المعيار
الفرق بين الأثر والضجيج كالفرق بين المعنى والمظهر.
عندما نفهم أن القيمة لا تُقاس بالحجم بل بصدق النية وبالأثر الطيب، نبدأ في تغيير رؤيتنا لأنفسنا وللعالم.
إن فعلاً صغيراً من محبة قد يخلق حياةً جديدة، بينما استعراضاً كبيراً من أنانية قد يقتل المعنى.
فلنُعِد النظر في معاييرنا، ولننصت لما لا يُقال، ولنمنح التقدير لمن يصنع الفرق في صمت.
حين نُقدّر الصدق، لا المظهر؛ الجوهر، لا الضجيج؛ الفعل العميق، لا العرض المسرحي… نستعيد شيئاً من إنسانيتنا التي أضعناها في زحمة المقارنات.
ربما حينها فقط، سنفهم أن الأثر الحقيقي لا يحتاج جمهوراً، بل ضميراً حياً.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com