
الرباط في 27 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة: لقطات تذوب لها القلوب
من منا لم يشاهد مقطع فيديو لقطة تحتضن رضيعًا، أو كلبًا يحرس طفلًا أثناء نومه، أو حتى حصان يلاعب طفلًا برفق؟ هذه المشاهد لا تثير الدهشة فحسب، بل تطرح سؤالًا عميقًا: “ما الذي يدفع الحيوانات إلى إظهار هذا العطف غير المتوقع تجاه الصغار؟”
هل هي غريزة طبيعية؟ أم نتاج التربية والاحتكاك بالبشر؟ في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذه العلاقة الفريدة، مستندين إلى دراسات علمية، وقصص واقعية، وتجارب حضارية تكشف سر هذا الحب الغامض.
الجزء الأول: الغريزة أم التربية؟
1. الغرائز الحيوانية: حماية الضعفاء
في عالم الحيوان، الغريزة تلعب دورًا جوهريًا في سلوكيات البقاء، ومن بين أهم هذه السلوكيات: حماية الصغار. ويبدو أن هذه الغريزة لا تقتصر على صغار الفصيلة نفسها، بل تمتد أحيانًا لتشمل كائنات أخرى، بما في ذلك البشر.
لكن لماذا؟ وما الذي يجعل حيوانًا كالقطة أو الكلب يتصرف بعاطفة ورِقَّة تجاه طفل أو رضيع بشري لا يعرفه؟
الغريزة الأمومية، تلك الدافعة البيولوجية التي تحث الحيوان على رعاية صغاره، تُعد أحد المحركات الأساسية لهذا السلوك. وقد لوحظ في دراسات بيولوجية وسلوكية أن:
- الكلاب، وخاصة الأنواع الاجتماعية منها مثل “اللابرادور” و”الجولدن ريتريفر”، تُظهر سلوكيات رعاية مشابهة لما تظهره تجاه جِراءها عند التعامل مع أطفال البشر: من لعقٍ لطيف، إلى ملازمة قريبة، وحتى محاولة “تهدئة الطفل” عند البكاء.
- القطط، رغم ما يُعرف عنها من استقلالية وحيادية، قد تُفاجئنا في كثير من الأحيان بتصرفات غريزية رقيقة تجاه الرضع، مثل النوم إلى جوارهم، أو إصدار أصوات “الخَرخرة” التي يُعتقد أنها تساهم في تهدئة الأطفال، تمامًا كما تهدئ بها صغارها.
- الخيول، وهي من أكثر الحيوانات شعورًا وذكاءً، تُظهر وعيًا دقيقًا عند التعامل مع الأطفال. تتباطأ حركتها، تخفض رؤوسها، وتُظهر نوعًا من الحذر الواعي وكأنها تدرك تمامًا هشاشة من يتعامل معها.
كل هذه الأمثلة تؤكد أن “غريزة رعاية الضعفاء” ليست حكرًا على البشر، بل هي خيط خفي يربطنا بالحيوانات، حيث تسكن العاطفة في الصميم البيولوجي للوجود.
2. دور التربية والتنشئة: هل نصنع العاطفة؟
لكن، ماذا عن الحيوانات التي نشأت في بيئة بشرية؟ هل تتصرف بلطف لأنها فُطرت على ذلك، أم لأن بيئتها “علمتها” ذلك؟
الحقيقة أن التربية والتنشئة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل سلوك الحيوانات الأليفة. فالحيوانات التي تربّت داخل منازل البشر:
- تطوّر حسًا اجتماعيًا معقدًا، بحيث تميز بين أفراد العائلة، وتفهم أن الطفل – رغم ضعفه – له مكانة مميزة.
- تكتسب القدرة على الربط العاطفي، خاصة مع من يقدم لها الطعام والرعاية والاهتمام، وهذا يشمل الأطفال.
- تتأثر بالجو العاطفي في المنزل، فالحيوانات قادرة على التقاط الإشارات الشعورية الدقيقة: نبرة الصوت، لغة الجسد، وحتى الحالة النفسية لساكني المنزل.
أحد أكثر الاكتشافات إثارة في هذا المجال هو أن بعض الكلاب تفرز هرمون “الأوكسيتوسين” – المعروف بهرمون الحب – عند التفاعل مع الأطفال. وهو نفس الهرمون الذي يُفرز في أجسام الأمهات عند احتضان أطفالهن، ما يشير إلى وجود “جسر بيولوجي مشترك” بين البشر والحيوانات في الإحساس بالحب والرغبة في الحماية.
كما أن التدريب والتأهيل السلوكي يعزز هذا الرابط، خاصة في الحيوانات التي تُستخدم في العلاج النفسي للأطفال، حيث تتعلم هذه الحيوانات كيف تتعامل مع الصغار برقة وهدوء، بل وتستجيب لمشاعرهم بشكل مذهل.
الجزء الثاني: قصص لن تصدقها
1. القطة “سيرينا” التي أنقذت رضيعًا
في عام 2014، اشتهرت قطة من ولاية “ماساتشوستس” الأمريكية بعدما أنقذت رضيعًا من الاختناق بإيقاظ والدته بنقيقها المستمر. القطة شعرت بالخطر “وفعلت ما تفعله بأطفالها”.
2. الكلب “جورج” الذي أصبح حارسًا شخصيًا لطفل
في نيوزيلندا، كلب من نوع “جولدن ريتريفر” رفض ترك الطفل ينام وحيدًا. كان ينام بجوار سريره كل ليلة، وكأنه “حارس غير مرئي”.
3. الحصان “بيني” الذي يهدئ الأطفال المصابين بالتوحد
في بريطانيا، حصان علاجي يُدعى “بيني” ساعد أطفالًا مصابين بالتوحد على تحسين مهاراتهم الاجتماعية. كان يميل برأسه برفق نحوهم وكأنه “يفهم مشاعرهم”.

الجزء الثالث: لماذا تهتم الحيوانات بالأطفال؟
1. الأطفال يشبهون صغار الحيوانات
من منظور علم الأحياء التطوري، يحمل الأطفال البشر صفات “تحفز الاستجابة الأبوية” في الحيوانات، وهي صفات مشتركة مع صغار الحيوانات:
- حجم الرأس الكبير مقارنة بالجسم،
- ملامح الوجه البريئة والناعمة،
- الصوت الضعيف المرتجف عند البكاء،
- الحركات غير المتزنة.
كل هذه العناصر تنشط، دون وعي، في ذهن الحيوان سلوكيات الرعاية والحماية. إنها “لغة غير منطوقة” يتعرف عليها الحيوان بشكل فوري.
وقد أظهرت تجارب علمية أن حتى الحيوانات التي لم تتعامل من قبل مع أطفال البشر قد تُبدي اهتمامًا أو تحفظًا حنونًا عند رؤيتهم، ما يشير إلى أن هناك “برنامجًا فطريًا” يستجيب لتلك الإشارات.
2. الأطفال لا يُشكلون تهديدًا
في مملكة الحيوان، يُقيَّم الكائن الآخر بناءً على مدى خطورته. البالغون – بطبيعتهم – يُحتمل أن يشكلوا تهديدًا، سواء بالصوت أو الحركة أو حتى الرائحة. أما الأطفال، فغالبًا ما يُفسَّرون كـ”كائنات آمنة”.
وهنا تتجلى قدرة بعض الحيوانات – خاصة الذكية منها كـالكلاب والخيول – على التمييز الإدراكي بين النوايا. فقد لاحظ الباحثون أن الكلاب تغير سلوكها عند وجود أطفال، فتصبح أكثر حذرًا وهدوءًا، وتُظهر سلوكيات استرضائية.
3. العاطفة المتبادلة
العلاقة بين الحيوان والطفل لا تسير في اتجاه واحد. الأطفال، بحكم براءتهم الفطرية، يتعاملون مع الحيوانات دون خوف، دون أحكام مسبقة، وبدون محاولات السيطرة أو الاستعلاء.
وهذه البراءة في التفاعل تُقابل عادةً بتجاوب حيواني عاطفي قوي. فالكلب، على سبيل المثال، قد يستجيب لحضن طفل صغير بفرح وحنان، لأنه يشعر بأنه “مقبول ومحبوب بدون شروط”.
وبالتالي، تنشأ علاقة خالية من التهديد والشك – علاقة قائمة على الأمان والثقة.
الجزء الرابع: ماذا يقول العلم؟
1. سلوكيات الحيوانات تجاه الأطفال: دراسات مدهشة
تشير أبحاث حديثة من جامعة كامبريدج ومعاهد سلوك الحيوان إلى أن:
- الكلاب تستجيب لبكاء الأطفال بمستويات عالية من القلق واليقظة، تفوق تلك التي تظهرها عند سماع بكاء بالغ. وهي غالبًا ما تتحرك باتجاه الصوت، وتعرض سلوكيات تهدئة (مثل اللعق أو الجلوس قرب الطفل).
- القطط تختار الأطفال الهادئين كمرافقين مفضلين، حيث تميل إلى الاقتراب والنوم بجوارهم، خصوصًا إذا كانوا يلتزمون بالهدوء ولا يتعاملون بعنف أو اندفاع.
- الخيول المستخدمة في العلاج النفسي للأطفال تُظهر مستويات منخفضة من توتر العضلات عند التعامل مع أطفال يعانون من اضطرابات عصبية، ما يدل على قدرتها الفطرية على قراءة الحالة الانفعالية للطفل.
2. الأوكسيتوسين: الكيمياء الخفية للمودة
عند التفاعل مع طفل، يُفرز هرمون الأوكسيتوسين في أجسام الكلاب والقطط – وهو الهرمون نفسه الذي يفرزه البشر عند الشعور بالحب أو الأمان أو الاحتضان.
هذا التفاعل الكيميائي المتبادل يُعد برهانًا ماديًا على أن الرابط العاطفي بين الحيوان والطفل ليس مجرد مشهد مؤثر، بل هو تواصل بيولوجي عميق يؤثر على مشاعر وسلوك الطرفين.
والأهم أن هذه الروابط تعزز صحة الطفل النفسية والاجتماعية، حيث يشعر بالأمان والانتماء، بل ويكتسب مهارات التعاطف والمسؤولية في سن مبكرة.
الجزء الخامس: تجارب حضارية مثيرة
1. مصر القديمة: القطط كوصيات على الأطفال
في الحضارة المصرية القديمة، لم تكن القطط مجرد حيوانات أليفة؛ بل كانت رموزًا مقدسة للحماية والخصوبة. وقد وُجدت رسومات ومنحوتات تُظهر القطط وهي تجلس إلى جوار مهد الطفل، أو تحتضنه وكأنها تمارس دور “الوصية الروحية”.
وكانوا يعتقدون أن القطط تطرد الأرواح الشريرة وتحمي من الحسد والمرض. وفي بعض المقابر، دُفنت القطط بجوار أطفال، كتعبير عن رباط لا ينكسر حتى بالموت.
2. الهند: الكلاب في خدمة المعبد والطفل
في بعض القرى والمعابد الهندية، تُربى الكلاب جنبًا إلى جنب مع الأطفال، ليس فقط كحراس، بل كـ”كائنات مقدسة”.
ويُقال إن الطفل الذي يُربى بجوار كلب يُصبح أكثر شجاعة ورحمة، لأن الكلب يُمثل الصبر، والإخلاص، والحماية الصامتة.
3. اليابان: الرحمة المتجسدة في “أكيتا إينو”
ثقافة “الإنو” في اليابان تنظر إلى الكلاب – خاصة من فصيلة “أكيتا” – كرموز للإخلاص. وتُروى قصص واقعية عن كلاب انتظرت أطفالها لسنوات أمام المدارس، أو رفضت مغادرة جانب الطفل المريض في المستشفى.
هذه القصص لم تُعامل كحكايات عابرة، بل أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية التي تمجد الوفاء والحب غير المشروط.
خاتمة: عندما تُعلِّمُنا الحيوانات كيف نحب
في عالم يسير بسرعة، مليء بالضجيج والقلق، تأتي لحظة رائعة: قطة تخرخر بجوار طفل نائم، كلب يلحس يد رضيع، حصان ينحني برأسه أمام صغير خجول.
تلك اللحظات ليست مجرد مشاهد مؤثرة – إنها انعكاس لإنسانية تمتد إلى ما هو أبعد من الإنسان نفسه.
إن كانت الغريزة تدفع الحيوان ليحمي الصغير، فإن التربية تُعزز هذا الحب، والعاطفة المتبادلة تُكمله. لكن الأعمق من كل هذا هو الرباط الروحي الذي لا تفسره الكلمات ولا تُقيده اللغة.
رباط يجعل من الحيوان حارسًا، ومن الطفل مُلهمًا، ومن العلاقة بينهما درسًا لنا جميعًا:
“أنْ نحب ببساطة، أن نحمي بصدق، وأن نتواصل بقلوبنا، لا بألسنتنا. فربما، في أعين الحيوانات، نرى صورة لأجمل ما فينا نحن البشر.”
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com