
الرباط في مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
شهدت الكنيسة الكاثوليكية يوم 8 مايو 2025 حدثًا استثنائيًا يُضاف إلى سجلّها العريق الممتد عبر أكثر من ألفي عام، بانتخاب الكاردينال الأميركي روبرت فرنسيس بريفوست ليصبح البابا الجديد، متخذًا اسم “ليون الرابع عشر”.
لحظة الإعلان عن اسمه من شرفة كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان شكّلت تتويجًا لمرحلة من الترقب العالمي الكبير، ليس فقط لأهمية المنصب الروحي الذي يمثل أكثر من 1.3 مليار كاثوليكي حول العالم، بل أيضًا لما يحمله هذا الانتخاب من دلالات تتجاوز حدود الكنيسة لتلامس قضايا العدالة، والهجرة، والفقر، والانقسام الجيوسياسي.
ما زاد من رمزية هذا الحدث أن بريفوست هو أول أميركي يتولى سدة الكرسي الرسولي في تاريخ الفاتيكان، ما يعكس تغيرًا تدريجيًا في وجه الكنيسة نحو مزيد من الشمولية والانفتاح على ثقافات ومجتمعات لم تكن حاضرة في قلب صناعة القرار البابوي من قبل. انتخابه جاء في وقت تشتد فيه الحاجة إلى قيادة روحية موحّدة وسط عالم يعيش أزمات متلاحقة أخلاقية وبيئية وسياسية، وهو ما جعل هذا الحدث لحظة فارقة في مسيرة الفاتيكان الحديثة، ونقطة تحول يُنتظر منها الكثير.
بالنظر لتأثير مؤسسة البابا في عالم اليوم، سنحاول في هذا المقال أن نقرب القراء في العالم العربي، ولاسيما المسلمين منهم، من طريقة انتخاب البابا التي تستند إلى تقاليد راسخة من القرون الوسطى، وتنوع الكرادلة واختلاف انتماءاتهم الجغرافية عكس الانتخابات السابقة، وكذا الأهمية التي أصبح يكتسيها البابا في عالم اليوم، ومدى تأثيره على مجريات الأحداث، على أن نختم المقال بالحديث عن الرهانات التي ستواجه القيادة الجديدة للفاتيكان.
وفاة البابا فرنسيس وبداية مرحلة جديدة
جاء انتخاب البابا الجديد بعد وفاة البابا فرنسيس، الذي غادر عالمنا في 21 أبريل 2025، عن عمر ناهز 88 عامًا، في لحظة ذات وقع رمزي كبير، إذ تزامن رحيله مع “عيد الفصح”، وهو أقدس الأعياد في التقويم المسيحي، ما أضفى على وفاته بُعدًا لاهوتيًا وروحيًا عميقًا. البابا فرنسيس، الأرجنتيني المولد، الذي كان أول بابا يأتي من خارج أوروبا منذ أكثر من 1200 سنة، شغل المنصب البابوي لمدة 12 عامًا، تميزت بانفتاحه على قضايا الفقراء والبيئة والعدالة الاجتماعية.
قاد البابا فرنسيس الكنيسة في واحدة من أصعب المراحل التي عرفها العالم المعاصر، بدءًا بجائحة كورونا، مرورًا بالصراعات الإقليمية، وامتدادًا إلى الأزمات المناخية والاقتصادية. وقد أعاد ترتيب أولويات الكنيسة بما يتوافق مع تطلعات المؤمنين في الجنوب العالمي، وأعطى صوتًا للمهمشين وللأقليات، ودعا إلى “كنيسة فقيرة من أجل الفقراء”. كما أنه سعى إلى إصلاحات مؤسسية عميقة داخل الفاتيكان، تتعلق بالشفافية المالية، والحوكمة، ومحاسبة المتورطين في فضائح الاستغلال الجنسي.
عُرِفَ عنه دفاعه القوي عن قيم السلام والمحبة والإيمان في العالم أجمع، واعترافه بدولة فلسطين ورفع العلم الفلسطيني في حاضرة الفاتيكان، وكذا إدانته للحرب في غزة والمطالبة بتوقيفها.
وستظل الزيارة التاريخية للبابا فرانسيس للمغرب يومي 30 و31 مارس 2019 راسخة في الذاكرة، حيث تم تجديد التأكيد على الدور الرئيس للديانات في الدفاع عن الكرامة الإنسانية والنهوض بالسلام والعدالة.
برحيله، دخلت الكنيسة مرحلة دقيقة تتطلب مواصلة الإصلاح من جهة، ومن جهة أخرى الحفاظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكية التي تضم ثقافات متعددة وتواجه تحديات متباينة من قارة إلى أخرى. وقد كان من أبرز تحديات المجمع المغلق بعد وفاة البابا فرنسيس هو اختيار شخصية قادرة على استكمال هذه المسيرة من دون خسارة التوازن الذي صنعه سلفه بين التقليد والانفتاح.
عملية انتخاب البابا: تقاليد راسخة في زمن التغيير
تُعد عملية انتخاب البابا من أكثر المراسم إحاطة بالسرية والرمزية في العالم، وتعود بجذورها إلى القرن الحادي عشر، لكنها تطورت في صيغتها الحالية منذ القرن الثالث عشر. ما زالت تُجرى في كنيسة سيستين الشهيرة داخل أسوار الفاتيكان، تحت سقفها المزخرف بروائع مايكل أنجلو، حيث يجتمع الكرادلة المؤهلون لانتخاب البابا الجديد في “المجمع المغلق” (الكونكلاف)، وهو اجتماع يُمنع خلاله التواصل مع العالم الخارجي لضمان حيادية القرار وصلابته الروحية.
لا يُسمح لأي شخص غير الكرادلة بالدخول إلى مكان التصويت، ويؤدون جميعًا قسمًا صارمًا للحفاظ على السرية المطلقة. يتم التصويت عبر أوراق مطبوعة يدويًا، يُدوّن فيها اسم المرشح، وتُجمع الأصوات في صندوق يُفتح تحت إشراف لجنة مُعينة، وتُحرَق الأوراق بعد كل جولة تصويت، ليصدر عن ذلك الدخان الشهير. وإذا لم يُنتخب أحد، ينبعث دخان أسود، أما إذا تحقق نصاب الثلثين، يخرج الدخان الأبيض، إيذانًا بولادة بابا جديد.
اللافت في كونكلاف 2025 أنه شارك فيه 133 كاردينالاً، وهو أعلى عدد من الكرادلة المصوتين في التاريخ الحديث، وقد تم تعيين معظمهم من قبل البابا فرنسيس نفسه. هذا الرقم ليس فقط مؤشراً على تنوع المؤسسة البابوية بل يعكس أيضًا إعادة تشكيل عميقة للبنية الجغرافية والديموغرافية للسلطة داخل الكنيسة. ومن هنا، فإن عملية التصويت في هذا السياق لم تكن مجرد طقس شكلي، بل كانت معركة هادئة بين تيارات مختلفة تتصارع من أجل توجه الكنيسة في العقود القادمة.
من خلال الحفاظ على طقوس تعود إلى القرون الوسطى، تُظهر الكنيسة الكاثوليكية قدرتها على الموازنة بين الاستمرارية والتجديد. فالمراسم التي قد تبدو للبعض غارقة في الرمزية، تظل محملة بمعاني الوحدة والانضباط الكنسي، في وقت تتعرض فيه المؤسسات الدينية لضغوط متزايدة من متغيرات العالم المعاصر. ويأتي هذا الانسجام بين التقليد والتحديث ليرسخ مكانة الفاتيكان كمؤسسة روحية لا تزال قادرة على التأثير في قلوب الملايين، رغم تعقيدات الزمن الحديث.
تنوع الكرادلة: خطوة نحو عالمية حقيقية للكنيسة
من أبرز معالم كونكلاف 2025 أنه عُقد في ظل هيئة كاردينالية ذات تركيبة غير مسبوقة من حيث التنوع الجغرافي والثقافي. فقد قام البابا الراحل فرنسيس بتعيين أكثر من 90 كاردينالاً خلال سنوات حبريته، معظمهم من خارج أوروبا، وتحديدًا من إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. هذه الخطوة كانت جزءًا من رؤيته لتوسيع دائرة التأثير الكنسي لتشمل مناطق كانت تعتبر على هامش القرار الفاتيكاني.
ضم مجمع الكرادلة هذا العام ممثلين عن بلدان لم تكن في السابق ضمن دائرة التأثير، مثل بوركينا فاسو، منغوليا، وجنوب السودان. وقد أحدث هذا التغيير في بنية السلطة الكنسية نوعًا من الديناميكية الجديدة في تداول السلطة، جعلت الكثيرين يترقبون انتخاب بابا من إفريقيا أو آسيا، في خطوة طال انتظارها.
لكن رغم التعدد الظاهري، انتُخب البابا من بلد غربي، ما أعاد طرح تساؤلات حول مدى تمسك الفاتيكان غير المُعلن بنمط قيادة أوروبي-أميركي. ورغم ذلك، فإن وجود هذا العدد الكبير من الكرادلة من الجنوب العالمي سيفرض حتماً تأثيرًا متناميًا على توجهات الكنيسة في المستقبل، خصوصًا إذا ما ترافقت مع تصاعد نفوذ هذه القارات ديموغرافيًا وثقافيًا.
الرسالة الواضحة من هذا التنوع أن الكنيسة الكاثوليكية لم تعد مؤسسة غربية الهوى فقط، بل أصبحت أكثر اقترابًا من عالم متعدد الأقطاب، تؤثر فيه شعوب كانت تُهمّش سابقًا في القرارات المصيرية. وهذا من شأنه أن يُمهّد لمرحلة جديدة تتسع فيها رؤية الكنيسة لتشمل معاناة وقضايا الملايين من البشر خارج أوروبا وأميركا الشمالية.
لماذا اهتم العالم بانتخابات هذه السنة؟
الاهتمام العالمي الكبير بانتخابات البابا هذا العام لم يكن وليد الصدفة أو الفضول الإعلامي المعتاد فقط. بل يرجع إلى عدد من الأسباب الموضوعية التي جعلت أنظار العالم، بكل أطيافه، تتجه نحو الفاتيكان مع ترقب لمخرجات الكونكلاف.
1- السياق الزمني:
جاءت الانتخابات بعد فترة من التحولات الكبرى التي عرفها العالم، حروب قائمة أو محتملة، أزمات لاجئين، تغيرات مناخية حادة، وتزايد الاستقطاب السياسي والثقافي. وفي مثل هذه السياقات، تبحث الشعوب عن قيادات رمزية يمكن أن تلعب دورًا جامعًا وعابرًا للحدود، والبابا يُعتبر بالنسبة لكثيرين أحد الأصوات النادرة القادرة على مخاطبة الإنسانية من موقع أخلاقي وروحي.
2- الانتظارات:
كان يُنتظر أن تُنتج هذه الانتخابات “ثورة ناعمة” داخل الفاتيكان، عبر انتخاب بابا من أصول إفريقية، وهو ما لم يتحقق. إلا أن مجرد وجود مرشحين من القارة السمراء ضمن الدائرة الأقرب للانتخاب أثار نقاشات واسعة، وأبرز مدى تغير نظرة الكنيسة لنفسها كهيئة شمولية لا ترتبط بجغرافيا محددة.
3- الخلفية الشخصية للبابا الجديد:
شكلت الخلفية الشخصية للبابا الجديد عامل جذب إعلامي وسياسي. فكونه أميركيًا، يُنظر إليه على أنه يمثل مفترق طرق بين السلطة الغربية والهوية العالمية للكنيسة. وإذا كان البابا فرنسيس قد نزل بثقل المؤسسة نحو الجنوب العالمي، فإن البابا ليون الرابع عشر مطالب اليوم بجعل تلك النظرة العالمية واقعية ومؤسسية لا رمزية فقط.
4- الملفات المطروحة:
هناك تساؤل متجدد حول قدرة البابا الجديد على التعامل مع الملفات الساخنة، من قضايا الشذوذ والإصلاح الكنسي، إلى العلاقات الإسلامية-المسيحية، وصولًا إلى أزمة الهجرة وانتشار الحروب. كل هذه القضايا جعلت من المنصب البابوي مركز اهتمام ليس فقط دينيًا بل إنسانيًا، حيث ينتظر الكثيرون رؤية ما إذا كانت القيادة الجديدة ستقدم خطابًا أكثر جرأة وانفتاحًا، أم ستكتفي بالدور التوفيقي المحافظ.
هل لمؤسسة البابا تأثير سياسي في العالم؟
يُخطئ من يظن أن الفاتيكان مجرد كيان ديني رمزي، أو أن تأثير البابا ينحصر في الإرشاد الروحي. في الواقع، فإن البابا، بصفته رأس الكنيسة الكاثوليكية، يمتلك نفوذًا سياسيًا عالميًا ناعمًا لكنه فعال، ويُصنف في الغالب ضمن ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الأخلاقية”. ويكفي أن نذكر أن الفاتيكان يُعد دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وله سفراء في أكثر من 180 دولة.
على مر التاريخ، لعبت مؤسسة البابا دورًا محوريًا في ملفات كبرى: من الوساطة بين الولايات المتحدة وكوبا، إلى دعم إنهاء الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إلى النداءات المستمرة من أجل وقف الحروب ونزع السلاح النووي. ولطالما تمتعت خطابات الباباوات بقدرة على التأثير في الرأي العام العالمي، خاصة حين تتعلق بقضايا مثل الفقر، البيئة، الهجرة، والعدالة الاجتماعية.
في ظل ما يشهده العالم اليوم من تفكك في المؤسسات السياسية، وغياب ثقة الشعوب في حكوماتها، تزداد الحاجة إلى أصوات رمزية تملك شرعية أخلاقية عالية. ومن هنا، فإن للبابا الجديد مسؤولية جسيمة: أن يحافظ على مصداقية هذا المنبر العالمي، ويستخدمه بذكاء للمساهمة في توجيه بوصلة السياسات نحو العدالة والرحمة والتضامن.
كما أن الفاتيكان، عبر البابا، يمكن أن يؤثر على واقع الملايين من المسيحيين في دول مضطربة، لا سيما في الشرق الأوسط وأفريقيا. فالكلمة التي تخرج من الفاتيكان قد تُسهم في تهدئة فتنة أو وقف اضطهاد أو دعم مبادرة للسلام.
خاتمة: ما بعد الانتخاب… رهانات القيادة الجديدة
مع انتخاب البابا ليون الرابع عشر، تبدأ الكنيسة الكاثوليكية فصلًا جديدًا من تاريخها، فصلًا سيكون فيه التحدي الأكبر هو الجمع بين الاستمرارية والتجديد. فالمؤسسة الكنسية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تكون صوتًا حقيقيًا للمهمشين، مدافعة عن البيئة، ومناهضة للتمييز، وحاملة لرسالة الأخوة العالمية.
ما يميّز هذا الانتخاب ليس فقط صفة البابا الجديد كأول أميركي في سدة بطرس، بل أيضًا الظرف التاريخي الذي جاء فيه، المليء بالأزمات والانقسامات والفراغات الأخلاقية. لذلك، سيكون من غير المستساغ أن يكتفي البابا الجديد بدور رمزي أو توفيقي، بل يجب أن يتحلّى بشجاعة النطق بالحق، حتى ولو على حساب التقاليد الجامدة.
إن هذا الانتقال في القيادة لا يمثّل مجرد تداول على منصب ديني، بل هو في حقيقته مرآة لتحولات الكنيسة والعالم معًا. وإن كان البابا الجديد يحمل إرث من سبقه، فإنه أيضًا مدعو لصنع بصمته الخاصة، ربما عبر الانفتاح على أصوات الجنوب، أو تجديد الخطاب الكنسي، أو خوض معارك رمزية لصالح الإنسانية.
وما ينتظره العالم من البابا الجديد ليس فقط أن يبارك الحشود من شرفة القديس بطرس، بل أن يكون مرشدًا أخلاقيًا لعصر يفتقر بشدة إلى الأخلاق.